Al Jazirah NewsPaper Friday  13/11/2009 G Issue 13560
الجمعة 25 ذو القعدة 1430   العدد  13560
تفاصيل القضية عقلٌ ونفسٌ
د. عبد المحسن بن عبد الله التويجري

 

رأيته بمحض المصادفة، ولقد لفت انتباهي من بين من التقيت بهم في إحدى المكتبات العامة، لقد كان مختلفاً ويلفت الانتباه في شكله وملبسه مما أثار عجباً يلحّ لمعرفة المزيد، وحين توجهت نحوه وجدته يستعد لمغادرة المكان.

إلا أن حرصي على معرفة المزيد عنه كان جاذبا يغري، فسرت أتبعه حتى وصل إلى شارع فرعي، فسار وسرت وراءه حتى وقف أمام باب تصورته لمنزل إلى أن تبين أنه باب لغرفة، وعلمت فيما بعد ما يتبعها من ملاحق قد يحتاج إليها.

وحين هم بالدخول وجدني بجانبه، وشعر بوجودي، وقال: هو أنت؟ فأثار دهشتي وتعجبتُ أنه قد لحظ وجودي معه بين الجمع، وفيما يبدو أنه متابع وعلى علم بكل ما انتابني، فرحب بي بطريقة في غاية اللطف ودعاني إلى داخل الغرفة، فلم أمانع فالرغبة ملحة للتعرف عليه سواء لمظهره، وكذلك ما يحمله معه حيث الحقيبة الضخمة الأثرية، وكان هذا واحداً من الدوافع لمتابعته والتعرف عليه، المعرفة الخالصة التي تخلو من كل الظنون. وبعد أن استقر بنا المكان في هذه الغرفة التي احتوت على كل عناوين الفوضى، وقتها ذهب إلى ملحق بالغرفة فوجدتني أتامل حالي وقد استبد بي الحياء، ولكن الرغبة في التعرف عليه، وعلى كل تفاصيل حياته كانت بكامل حيويتها يصاحبها ما تحركه في النفس من هواجس، فخطر خاطر أخذني معه لتأمل بين سؤال وجواب، وتحليل يعقبه سؤال كنت غارقاً في التأمل، وما زال الرجل منهمكاً في إعداد شيء كما أظن، وأنا منشغل بما جئت من أجله، وأتمنى ألا يكون فضول متطفل بل ان يكون فضول تعلّم ينشد المعرفة ويكتشف ما توارى عنه، فرائع سبر الأغوار متى تواري المهم والقرب من النفس وما تدفع به من سلوك.

لحظتها أيقنت بغلبة الوعي، وما يوجه إليه فلا يعترضه أي مانع حتى ولو استعان بالإرادة وما تؤدي إليه، فلقد كنت متحمساً وحريصاً، ولدي الاستعداد حتى النهاية لقراءة نفسه، وفي ذهني مبررات تشجعني على المضي دون تردد.

وفجأة عاد من آخر الغرفة وبيده كوب من الشاي فقدمه لي إلا أنني أحسست بالحرج أن أشربه بمفردي، وهو بجانبي حيث انهمك بإمعان وحرص يفتش حقيبته التي كانت معه بشكلها وحجمها، وذلك أحد الأسباب لوجودي معه، ووضعت كوب الشاي أمامي وسألته: ما الذي تحس به، أو ما انطباعك عني حين سرت وراءك حتى وصلت معك إلى هذه الغرفة؟ فرد قائلاً: إنّ هذا في طبيعة الإنسان، ويعد مظهراً من مظاهر سلوكه حيث عجزه عن الاستجابة لأي رادع أو مانع حين يأخذه الفضول سواء كان للتعلم أو للتطفل، ولقد حدث هذا معي مرات، فما عليك، فأنت مدفوع لا دافع ولذا لا أستغرب وجودك معي وهذا الذي أرى بعضا منه، وها نحن الاثنان في الغرفة التي ستحرك هواجسك بتدفق التأملات لديك وإمعان النظر.

وواصل حديثه قائلاً: إنني في غربة مع نفسي، ومع كل من يفترض أن أعايشهم أو أختلط بهم حتى هذه الغرفة أحس معها بالغربة أحياناً، وكان صمتي وإصغائي يشجعه على مواصلة حديثه، والسؤال الذي ألح علي: لماذا يحسّ بالغربة؟ لكنه لم يعطني الفرصة لطرح هذا السؤال، فواصل حديثه: إن الغربة عن وطن سهلٌ أن نفهم المعنى فيها حين يسافر أحدنا عن وطنه وأهله، أما الغربة في الوطن وبين الأهل، إنه إحساس ثقيل على النفس التي تبدأ في إشغال العقل.

إنّ الغربة قد تكون إحساساً وهمياً، أو أنها بأسباب ومبررات، إنّ غربتي السبب الأول لها أن مجال ما أفكر به، وما يجول بخاطري أو أقيّم به الأشياء مختلف عن نظرة أهلي ومجتمعي، فأنا في غربة عنه أو هم كذلك، فطبعي يشدني إلى الأقرب من الزهد، ولكنك تعرف أن من له أبناء وأسرة لم يعد بإمكانه أن يقرر ما يريد، فأنا متزوج ولدي ابن وابنة، ومن ناحية أخرى، فإنّ التباين قاسم مشترك بيني وبين زوجتي، فهو ليس اختلافاً في اجتهاد التفكير، أو أنه بدافع من الكراهية التي تتسلط على بعضٍ منا، فالاختلاف في الرأي أمر مشروع وأقبله، لكنّ ما بيننا فكرٌ لا تفاهم معه، بل إنّ زوجتي لا تجد مبرراً لما أفكر به، وتعده شيئاً من الهلوسة، وتمنيت أن أسأله بما يجسد ذلك من الأمثلة، لكن فرصة أي سؤال يصدر مني لا يُلقي لها بالاً فهو منشغلٌ بالحديث الذي واصله قائلاً: إنني أكبر وأجل العاطفة القلبية التي تربط بيني وبين زوجتي، ولكن أملت عليّ العشرة معها أن أكتشف أن عواطف القلب تؤدي جزءاً من مسؤولية الرابط، لكن هناك عاطفة أخرى لابد من وجودها، وأعني عاطفة العقل التي يؤكدها استعداد لفهم الفكر الآخر، والتفاعل معه. إنّ العقل بقدراته قاسم مشترك لكل رابطة، فكما نرتبط بعاطفة القلب وجب أن يكون لدينا تجانس واهتمام فكري مشترك، إنني كثير الاهتمام بسياسة بلدي وما يمر بها، وحين أتحدث عن ذلك معها تبادرني بخبر عن مزرعتهم التي ورثتها مع إخوتها بعد أن توفي والدها رحمه الله.

حسنٌ أن أتفاعل مع ما تقول، ولكن في وقته المناسب لا أن يكون صدى لحديث عن هموم الوطن، وأمر آخر، فلو تحدثت عن فكرة وعن عباقرة الفكر ردت قائلة: لا أحد منهم يستطيع أن يؤثث ولو صالونا من الصوالين، دعنا منهم وتعال معي إلى الدور الثاني لترى ما استبدلت وجددت في الركن الشمالي، فأحبس الأنفاس عن تفكيري وأصعد معها لأشاركها أمر الصالون، وذلك أمر طبيعي من جانبي متى صادف وقته، فكل اهتمامي وما يتبعه لا يجد اعتباراً لديها، بل إنها تعيبني عليه، وسبب آخر فقبل ثلاثة أيام أو في حدودها كنت مع إخوة من أبناء الحي وهم في حوار عن أبنائهم والمدارس، فوجدتني أذكرهم أن ما بعد المدرسة يأتي دور التعلّم في الجامعة أو ما بعدها حيث يُكمل كل منهم تحصيله لينتهي إلى مهنة أو تخصص يعلم به غيره، أو يشارك العمل من خلالها، فما رأيكم أن نقترح على مسؤول التعليم

ألا يترك الطالب يقرر ما ينوي التخصص فيه، وألا يكون هذا القرار قد اتخذه بمفرده، والأفضل وجود جهة مسؤولة لديها تجارب وخبرة، وقدرة تمكنها من العمل على إدارة حوار مع الطالب وتطلع إلى كل ما يتعلق بدراسته السابقة والقادمة لتساعده على الاختيار وفق قدرته وميوله، وكل الأسباب المتعلقة بما سيختار، وأعطيت في هذا المجال أمثلة لمن درس كذا، وتحوّل بعد تخرجه وممارسة العمل إلى فن أو علم أو مهنة أخرى، وبلا حوار كان رد الفعل من أولئك الاخوة متمثلاً في هجوم شرس منهم جميعاً، وكأنهم قد حضروا له مسبقاً، فجميعهم قد اختلط الأمر عليهم بين الحرية الشخصية في الاختيار والاتقان والتميز.

وفي مناسبة أخرى سمعت من أحدهم بمرارة وصلف أنه قرر أن يضع حداً لعلاقته الزوجية، وأنه عازم على طلاقها، وحجته أنه لا يجد منها الاهتمام المطلوب أو المشاركة، حيث يسرق من الوقت قليله، ويعكف على الاطلاع والقراءة، وقد حاول مناقشتها في بند من بنود ما قرأ، فوجدها تبدي مللاً وسخرية بالفكر والمفكرين، وأن مثل هذا قد تكرر مرات ومرات، ولقد أشرت إليه أن يتريث ويتسلح بالصبر، فلماذا لا يحاول التوجيه، وأن يأخذ بيدها ليتحقق الانسجام الفكري بينهما، لكن صاحبي هذا فاجأني بأنه قد خطب أجمل منها، وأقدر في الوعي والفهم إذا قارناها بزوجته الحالية، وما يستند إليه من علم عنها ليس أكثر من لمحة على قارعة الطريق.

ويواصل صاحبي حديثه في موضوع آخر فيذكر لي الصعوبة التي يلقاها حين يدير حواراً مع أبنائه، وخصوصاً حين تكون والدتهم مشاركة، لقد اجتهدت وجاهدت كل الظروف في سبيل هذا الحوار والتوجيه، لكن الأمر صار صعباً بحضور والدتهم فهي تقول بعكس ما أطرحه، وتعلم يا أخي أن ازدواجية الرأي والتوجيه، أو فوضى الحوار يؤدي إلى أن يعاني الأبناء متاعب نفسية، وهذا موضوع يطول الحديث فيه، ثم تابع لعلك بهذا ومن خلاله تجد الأسباب التي أحس معها بالغربة، لكل طابعه الشخصي وما يختلف به عن غيره دون شذوذ أو تعد على قيم أو أعراف مبررة.

ثم انتقل إلى الحديث عن حقيبته، فقال: هذه الحقيبة أثارت دهشتك، إنني أحملها بهذا الحجم والشكل لتحمل لي بعض الكتب وأدوات الرسم، وما أحتاج إلى أكلي وشربي، وبها صورٌ تذكارية لوالدتي ووالدي، وأبنائي وزوجتي وأشياء أخرى، إن ما ذكرته لك بعض من أسباب غربتي، ولو أذن الوقت لسمعت مني المزيد كما يسعدني أن تعرف أن لي أكثر من مؤلف ومطبوعة تجدهم في المكتبات، ومن ريعهم وتجديد طباعتهم أو حين أضيف إليهم من هذا كله أصرف على نفسي وعائلتي بجانب مرتب التقاعد، وأثمان ما أبيعه من رسومات ولوحات للآخرين حتى قال إنّ الغربة لا يأتي بها سفرٌ مهما بعد، الغربة يا أخي غربة بين عقول وأنفس، ولا ادعي هنا كمال حالي فأنا بين عجز وخطأ وصواب، ولكني أحاول قدر استطاعتي الانسجام مع نفسي ومجتمعي، وأن يكون لي أثر في هذه الحياة.

يا أخي إن عقل الإنسان الوسيلة الأقوى التي يتحقق معها أي وجود، وإن تعددت أماكن حضوره، وما يتجه به أحدنا من مهمات وواجب ومسؤولية، ولكل نابض بالحياة ومن غير تسلط أو طغيان طريق وإن اختلف عن بعضهم فما دام يحاول استقامته بقواه الذاتية، فقد يصل حتى ولو اعترض على ذلك الآخرون.

هذه هي الحياة والناس، بعضنا يثير الدهشة وما يلفت انتباه الآخرين، فمن خالف أو اختلف في أمر معين لا تقره مداركك لفت انتباهك، إن القضية يا أخي عقلٌ ونفسٌ، والله الموفق.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد