Al Jazirah NewsPaper Friday  20/11/2009 G Issue 13567
الجمعة 03 ذو الحجة 1430   العدد  13567

لا إله الا الله: كلمة الإخلاص 1-2
د. محمد بن سعد الشويعر

 

هذه الكلمة نوجهها للمسلمين عامة، وللحجاج خاصة، تلك الجموع القادمة من كل فج عميق، جاؤوا مسارعين لأداء فريضة الله عليهم، مستبشرين بقدومهم على أقدس مكان على وجه الأرض (بيت الله الحرام)، بادئين مشوارهم التعبدي منذ حطّتْ رحالهم عند بيت الله بالتمعن في عمق...

.... أول كلمة يدخل بها الإنسان عقيدة الإسلامإنها: لا إله إلا الله، التي تعصم دم المسلم وماله وعرضه من الانتهاك، وتشعره بالأخوة والمودّة مع كل مسلم استجاب بهذه الكلمة إلى أمر الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم ذلك في هذا الموقع، الذي يُلبي المسلمون فيه، فيه مثل هذه الأيام من كل عام. واستجبت أخي الحاج للنداء، يحدوك الإيمان، ويدفعك الرغبة بقبول هذه العبادة، عسى أن ترجع إلى بلادك كيوم ولدتك أمك، مجاب الدعوة، مغفوراً لك.

فما دلالة هذه الكلمة (لا إله إلا الله)؟ إنها كلمة الإخلاص لله، في العبادة والاتجاه معه سبحانه وتعالى، وهي كلمة الارتباط الروحاني، والتعلُّق الوجداني مع الخالق سبحانه.

وهي كلمة الخضوع والولاء لفاطر السماوات والأرض، إنها لا إله إلا الله، تلك الكلمة صغيرة الحروف، صغيرة الحجم والنطق والكتابة، والسهلة على من يسّرها الله عليه.. لكنها عظيمة المعنى، وعميقة الدلالة، كبيرة الحجم والأثر؛ لثقلها في الميزان، ولمكانتها عند الرحمن.

يدلنا على عظمها ودلالتها مكانتها عند ربّ العزّة والجلال؛ ففي مشهد من مشاهد يوم القيامة، وما أهوله من موقف، إنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، ففي ذلك الموقف رَوَتْ كُتُب الحديث، قصة ذلك الرجل الذي حُوسب، فطاشتْ موازينه، وأيقن بالهلاك؛ لأنه شهد على نفسه بالإقرارات؛ فجف لسانه، وعاين العقاب وجها لوجه. لكنّ رحمة الله تعالى أدركته في ذلك الموقف، عندما جيء ببطاقة صغيرة، تحمل: لا إله إلا الله، وقال في نفسه وماذا تُجدي هذه، مع تلك الأكوام من السيئات، وبعدما وضعت في الكفة الأخرى من الميزان سمع نداء كريماً يقول: (لا ظلم اليوم). فقلبت هذه البطاقة الصغيرة الموازين، وتغلبت على الكفة الأخرى المثقلة بالسيئات، وهي كثيرة جداً، فنجّاه الله من الهلاك، لأن هذا الرجل قد قال في حياته الدنيا: لا إله إلا الله، مخلصاً بها قلبه، موقناً بها ضميره.

فما دلالة لا إله إلا الله؟ وماذا تعني هذه الكلمة؟ وما حقيقة العمل بمقتضاها؟ وهل يترتب على ذلك شروط أو تبعات نحو الفرد المسلم في نفسه وعمله، أو جهداً بدنياً؟!

لا هذا ولا ذلك، وإنما لا إله إلا الله تعني النفي والإثبات، في الدلالة اللغوية التي يجب أن يستحضرها عملياً وعقدياً كل فرد؛ فحرف (لا) الأول هو حرف نفي، أيْ أنَّ قائلها ينفي ويتبرأ من كل معبود أو متبوع، من أي مخلوق أو جماد كان، فتنفي التعلق الوجداني بأي كائن في الألوهية المطلقة.. ثم يأتي الحرف (إلا) ليثبت أن جميع أمور المسلمين، العقدية والعملية، متعلِّقة بالله جل وعلا، لا ترتبط إلا بالله الواحد الأحد؛ لأنه سبحانه هو المستحق للتأليه والعبادة، النافع الضار، فلا يُشرك العبد مع الله في أموره: خوفاً ورجاء، وخشية واستغاثة وغيرها من أنواع العبادات؛ لأنه سبحانه لا ينازعه في العقيدة والعبادات شيء، وهو سبحانه بعيد عما يقوله مَنْ جعل معه شريكاً كما يقول المشركون من قبل {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (سورة الزمر: 3)، ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (مَنْ عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)؛ فهو (العبد) خاسر؛ لأن الله لا يقبل إلا العمل الخالص له وحده سبحانه.

فاحرص يا أخي المسلم ألا يُبْطل عليك عدّو الله (الشيطان) أعمالك التعبدية كلها، بصرف بعض الأمور لغير الله؛ لأن الله سبحانه ليس بينه وبين عباده حُجُب، بل أبوابه مفتوحة لمن دعاه، ولمن يطلب منه حوائجه، ولمن حقق كلمة التوحيد، وطبَّق ذلك عملاً؛ فالله سبحانه هو المستحق للعبادة، هو الذي يجب أن تتجه إليه القلوب، وهو الوحيد - جل وعلا - الذي يجب أن تتعلق به الأفئدة، ولا أحد سواه، في جميع الأمور؛ يقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (سورة البقرة 186).

لأنه الخالق الرازق، المحيي المميت، المستحق - جل وعلا - تعلق القلوب، وإخلاص العمل؛ فسبحانه من إله عظيم.

وكلمة لا إله إلا الله يجب على كلّ مسلم أن يستحضرها في قلبه، وأنْ يْدرك معناها في العبودية، ومدلولها في الوحدانية مع الله، وأن يؤدي حقها بإخلاص العبادة والعمل، وألا يُشرك مع الخالق شيئاً في العقيدة والعمل؛ فيبطلها.

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن رجلين مرا على قوم يعبدون قبراً، فقالوا للأول قرّب، قال: ما كنت لأقرب لغير الله، ولا ذباباً؛ فضربوا عنقه، ودخل الجنة. وقالوا للآخر قرّب، قال: ما عندي شيئاً أقرّبه. قالوا قرّب ولو ذباباً؛ فقرب لصاحب القبر ذباباً؛ فدخل النار. وهذا هو مفهوم كلمة لا إله إلا الله، بأن الشرك في العمل القليل يُهْلك صاحبه؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل إلا ما كان خالصاً له سبحانه، ومن مكسب حلال، مهما صغر؛ لأن الأساس النية.

إنَّ عدو الله إبليس يخنس ويتضاءل عندما يذكر المسلم ربه ب(لا إله إلا الله)، وهو (إبليس) حريص على إبعاد الإنسان، هذا المخلوق الضعيف، عن الارتباط بهذه الكلمة، ويجهد نفسه مع أعوانه على إبعاده عن ملازمتها أو تحقيق معناها؛ فنراه بدون كلل ولا ملل، ومعه أعوانه ومغرياته، من شياطين الإنس وشياطين الجن، يرسل خيله ورَجِلِه على الناس؛ لإشغالهم وإلهائهم عن مدلول لا إله إلا الله قولاً، وعن تحقيق معنى لا إله إلا الله في العمل، واستحضارها في العقيدة.

فينفذ عليهم من مداخل شتى؛ لإضلالهم وإغوائهم وإلهائهم عن المداومة والارتباط ب(لا إله إلا الله)؛ حتى يغفلوا ومن ثم يوردهم موارد الهلاك؛ فيزين لهم المسالك بالمغريات التي توردهم الموبقات.

فهو يدرك معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما سأله رجل عن أفضل الأعمال، فقال له: (لا يزال لسانك رَطْباً من ذكر الله)، وفي دلالة هذا قال أهل العلم: إن أفضل ذكر الله، وأمكنه في الدلالة والرضا من الله سبحانه، هو قول: لا إله إلا الله.

كما أنّ عدو الله (إبليس)، لا يطيق سماع هذه الجملة إذا جاء الأذان، بأن يهرب وله ضُراط، فإذا سكن الأذان رجع ليشغل الناس عن ذكرهم، ودعائهم، كما أنه يدرك مدلول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب عندما حضرته الوفاة؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام لعمه: (يا عمّ قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، إلا أن عدوّ الله وكبار كفار قريش، وتعاونهم مع الشيطان وأعوانه، كان لهم - بإرادة العزيز الحكيم - دور كبير في صرف أبي طالب عن قولها؛ إذْ كانت آخر كلمة قالها: هو على ملّة أجداده.

وهذا الجهد من الشيطان، والحرص الدؤوب بصرف الناس عن لا إله إلا الله قولاً وعملاً، وعن أداء حقها، يحتاج من البشر أنفسهم إلى جهد معاكس، ومجاهدة للنفس؛ للوقوف أمام مآرب الشيطان، ومقابلة وساوسه وهواجسه بمجاهدته ووساوسه؛ للتصدي له وأعوانه بسلاح أقوى؛ للوقوف أمام تحقيق مآربه وأعوانه من شياطين الإنس؛ لأن شياطين الجن يصدّهم ذكر الله والعزيمة الصادقة، أما شياطين الإنس فهم يأتون بالمغريات والملهيات، ويزينون لمآربهم في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ما الله به عليم. فتمعن يا أخي المسلم في عظم أجر لا إله إلا الله، وتمعن أيضا في فوائدها ومغزاها، واعمل بمقتضاها كما فهمه علماء السلف، في العبادة والعقيدة، وأثرها في طمأنة القلب، عندما تقولها وأنت مهموم مكروب فسوف تدرك ما يريحك، ويخفف ما على كهالك من غمّ؛ لأن الله يقول: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (سورة الرعد28).

وبهذا تستطيع أن تتعرف على مواطن الضعف في نفسك، ومداخل أعداء الله، وتتلمس المداخل عليك، سواء كانت من أجل المكسب أو المنصب أو الشهرة أو الجاه، فتنمي عندك كلمة الإخلاص القدرة على دحض تلك المداخل، بحُسن التوكل على الله، وأنه قد قدَّر كل شيء قبل خروجنا من بطون أمهاتنا.

(للحديث صلة)

عمرو بن معد يكرب: شجاع يضرب به المثل، كان قد أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو عمرو بن معد يكرب الزبيدي، ويكنى أبا ثور، الفارس المشهور، صاحب الغارات والوقائع المذكورة في الجاهلية والإسلام، وقد أسلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبلى بلاء حسناً في حروب المسلمين، مثل وقعة القادسية مع الفرس، فإنه الذي ضرب خرطوم الفيل بالسيف، فانهزم وانهزمتْ الأعاجم، وكان ذلك سبب الفتح.

وقيل إن عمر قال له يوماً: ما تقول في الحرب؟ قال: مُرّة المذاق إذا انكشفت عن ساق، فمن صبر عرف، ومن ضعف تلف؟

قال: فما تقول في الرمح؟ قال: خليلك وربما خانك. قال: فالنبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب. قال: فالترس؟ قال: عليه تدور الدوائر. قال: فالسيف؟ قال: عبدك ثكلتك أمك. قال عمر: بل أمّك أنت. فقال: الحمّى صرعتني، فأغلظ له عمر في القول، فقال:

أتوعدني كأنك ذو رعينٍ

بأنعم عيشة أو ذو نواس

فلا تفخر بملكك كل ملك

يصير لذلة بعد الشماس

فقال عمر: صدقْت فاقتص مني. قال: بل أعفو يا أمير المؤمنين، لولا آية سمعتها منك لجللتك بالسيف، أخذ منك أم ترك؟ قال عمر وما هي؟ قال: سمعتك تقرأ: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} (سورة طه 74)، والله لو علمت أني إذا دخلتها ميّت لفعلتُ.

وقيل إنه لم يكن في عمرو إلا خصلة رديئة (الكذب)، فقد حكى أبو عمرو بن العلاء، قال: وقف عمرو يوماً بالمربد يتحدث عن عادتهم، فقال غزوت في الجاهلية على بني مالك، فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليهم بالصّمْصامة (اسم سيفه)، فأخذت رأسه، وكان خالد هذا حاضراً، فقال بعض القوم: مهللاً أبا ثور قتيلك يسمع كلامك، وأشار إليه، فقال عمرو: اسكت إنما أنت مُحدَّث، فاسمع أو قُمْ، ثم التفت إلى خالد فقال: إنما تُرهَب هذه المعدية بهذه الأخبار، ومضى في حديثه ولم يقطعه، فقال رجل: إنك لشجاع في الحرب والكذب. فقال: إني لكذلك.

وكان له سيف يُسمى الصّمْصامة، وحُكي أن عمر بن الخطاب يحب سماع سيرته وشجاعته، فقال لعمرو: ابعث إليّ الصّمصامة، فبعث إليه به، فلم يره كما بلغه، فقال له في ذلك، فقال: إني بعثت إليك الصّمصامة، ولم أبعث إليك اليد التي تضرب به. وقد وقع الصمصامة للمهدي، فأحضره وأمر بالشعراء أن يصفوه، فاستحق بعضهم عشرين ألف درهم على أبيات قالها فيه. (كتاب هبة الأيام للشيخ يوسف البديعي قاضي الموصل المتوفى عام 1073، ص22- 23).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد