Al Jazirah NewsPaper Friday  20/11/2009 G Issue 13567
الجمعة 03 ذو الحجة 1430   العدد  13567
مستقبل الحقائق
استير دايسون

 

في مؤتمر عُقِد مؤخراً لرؤساء تحرير الصحف وشاركت فيه شخصياً، اجتمع حشد صغير من الناس للحديث عن الصحافة ووسائل الإعلام الجديدة. وحين أخبرت المجموعة أنني بدأت مشواري المهني كمدققة حقائق في إحدى المجلات، انتبهت إلى أن وجوه العديد منهم ارتسمت عليها الدهشة.

لقد تعمدت استحضار ماضي مشواري المهني لأنني أعتقد أن تدقيق الحقائق يشكل أفضل وسيلة للتدريب على الإطلاق، ليس فقط في مهنة الصحافة، بل وأيضاً في الحياة بصفة عامة. فمن السهل أن نصدق شيئاً ما حين يؤكده شخص يبدو عليه أنه مطلع على بواطن الأمور. ولكن إن كنت مسؤولاً عن التحقق من الوقائع والتدقيق في الحقائق فسوف تنصت بقدر أعظم من الانتباه بطبيعة الحال.

ولكن إلى أي مصدر يستند المتحدث حين يذكر حقائقه؟ وهل يشتمل الأمر على مصلحة تتحقق له شخصياً - كأن ترتفع أسعار الأسهم، أو يتحصل على رسوم إعلانية، أو يحظى بالتقدير أو الاعتراف بالجميل من قِبَل آخرين؟ أم أنه متحيز ببساطة بسبب الأشخاص الذين يعرفهم، أو الشركة التي يعمل لصالحها، أو المواقف التي اكتسبها في نشأته؟

لقد أمضيت ساعات طويلة في مراجعة المصادر - وكانت في أغلبها أوراقاً يغطيها الغبار والأتربة منذ أيام ما قبل الإنترنت، أو محادثات مع أشخاص غرباء على الهاتف - لاستيضاح مسائل تتعلق بحقائق: على سبيل المثال، هل كان هذا حقاً المنتج الأول من نوعه؟ أو هل كان السيد سميث في الثانية والأربعين أو الثالثة والأربعين من عمره؟ وهل كان محقاً في زعمه بأن العائدات كانت في نمو متواصل طيلة السنوات الخمس الأخيرة فقط بسبب حيازات حصلت عليها شركته؟ وهلم جرا.

لقد كانت حياتي محكومة بعبارة (يستكمل لاحقاً)، وهي عبارة كثيراً ما ترد في لغة المراسلين الصحافيين. ونحن محققو الوقائع نمزح من المراسلين الكسولين الذين يسلموننا نسخاً من مقالاتهم تحتوى على عبارات مثل: (خوان تايجر الذي يبلغ من العمر (يستكمل لاحقاً)، والذي نشأ في (يستكمل لاحقاً)، قبل أن يدرس في (يستكمل لاحقاً)، يشغل الآن منصب (يستكمل لاحقاً) في شركة ويدجيتز...). وكانت مهمتنا تتلخص في وضع المعلومات المناسبة في محل عبارة (يستكمل لاحقاً).

ولكننا تعلمنا الكثير. فلم نتعلم آلاف الحقائق - التي نسيتها منذ ذلك الوقت - فحسب، بل لقد تعلمنا موقف التشكك مقترناً بتقديس الحقيقة.

غير أن هذا الموقف يتناقض مع التشكك الذي أبدته مراسلة روسية بشأن أيامها الأولى في مهنتها: (كلما كنا نقرأ مقالاً حول المخاطر الصحية المترتبة على تناول الزبد، كنا نسارع على الفور إلى شراء أكبر قدر ممكن منه. فقد كنا ندرك أن هذا يعني أننا سوف نواجه عجزاً في الزبد قريباً). وبعبارة أخرى، كان الروس يبحثون فقط عن الدافع وراء التأكيد أو الزعم، أما الحقيقة الفعلية فلم تكن ذات صلة بالقضية.

ومع تآكل الكهنوت الصحافي وبعد أن أصبح بوسع أي شخص أن يصبح مراسلاً أو معلقاً مواطناً، فإن تنظيم أو تدريب كل الصحافيين الهواة ليس هو الحل. وتمشياً مع روح (افعل ذلك بنفسك) ذات الطبيعة المقلوبة على شبكة الإنترنت، حيث يحجز الناس لرحلاتهم بأنفسهم، وينشرون صورهم بأنفسهم، ويبيعون سلعهم المستخدمة بأنفسهم، فلابد وأن يكون المستخدمون مسؤولين عن تدقيق الحقائق بأنفسهم.

هذا لا يعني أن الصحافيين لا ينبغي لهم أن يدققوا حقائقهم بأنفسهم. ولكن في النهاية، يتعين على كل شخص أن يصبح قارئاً أفضل - أكثر تشككاً وفضولاً. لماذا تسترعي هذه القصة الصحافية كل هذا الاهتمام؟ هل تتحدث هذه المدونة عن أي شيء سلبي على الإطلاق، أم أنها تكتفي بالتحدث دوماً عن المنتجات العظيمة التي تستخدمها؟ هل تعمد إلى أي شكل من أشكال الكشف في مدونتها؟ ولماذا يتلفظ ذلك السياسي بعبارات لطيفة عن ذاك السياسي؟ وما هي الشركة التي يعمل لصالحها ذلك الشخص الذي يستعرض هذا المنتج؟

تستطيع الحكومات أن تفرض التنظيمات والقواعد، ولكننا في النهاية لن نحصل إلا على ذلك النوع من الصحافة الذي نطلبه ونرغب فيه. وإذا طلبنا هذا فإن المواقع على شبكة الإنترنت لن تعرض علينا المحتوى فحسب، بل ستقدم لنا أيضاً أنظمة للسمعة، حتى يصبح للمشاركين سمعة باعتبارهم جديرين بالثقة (أو غير جديرين بها). ولا ينبغي لنا أن نُجَرِّم عدم الكشف عن الهوية (وهو أمر له استخداماته)، ولكن بوسعنا أن نطلب التفاصيل عن الأشخاص الذين نقرأ كلماتهم. فقد يرغب شخص ما في البقاء مجهولاً، ولكن بوسعنا أن نستخلص استنتاجات خاصة بنا حول أسبابه.

إن هذا القدر الهائل من التفكير قد يبدو مجهداً للغاية، ولكن هذا هو المطلوب من أي بالغ مسؤول في أيامنا هذه. ومقارنة بما كان يحدث منذ قرن من الزمان، فإن المزيد من الناس أصبحوا يقضون وقتاً أقل في العمل لضمان وجودهم المادي. ولكن في هذا العالم المحير المربك، يتعين علينا أن نمضي المزيد من الوقت في العمل من أجل ضمان سلامتنا الفكرية - وهي المهمة التي لا نستطيع أن نتركها للحكومات أو حتى وسائل الإعلام. إن الحقائق مقدسة، ولكن لا أحد يستطيع أن يزعم أن كل وسائل الإعلام التي تدعي أنها تقدمها، سواء كانت (جديدة) أو قديمة، تستأهل الثقة.

***

استير دايسون رئيسة شركة EDventure القابضة، وهي مستثمرة نشطة في مجموعة متنوعة من المشاريع الناشئة في مختلف أنحاء العالم. ومن بين اهتماماتها تكنولوجيا المعلومات والرعاية الصحية والطيران الخاص والسفر إلى الفضاء.

بودابست
خاص «الجزيرة»



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد