Al Jazirah NewsPaper Monday  30/11/2009 G Issue 13577
الأثنين 13 ذو الحجة 1430   العدد  13577
بين الكلمات
بروباجندا (عربية) -2
عبد العزيز السماري

 

ورث العرب النظام الشمولي بعد انهيار الفاشية والنازية، و بعد أن أثبتت تطبيقاتها الحية انتهاء صلاحيتها، وانتفاء طبيعتها المستبدة مع فطرة الإنسان، وهزيمتها على مختلف الأصعدة، وخروج الإنسان منها بقناعة راسخة، مضمونها أن أيديولوجية الغضب والحماس للحرب والقتال لا تصنع حضارة إنسانية ولكن تُخلف كوارث، برغم من أن شعارات الفاشية والنازية لم تكن في حقيقة الأمر خاوية كما هو الحال عند العرب، فقد أحدثت الفاشية والنازية تغييراً في الإنسان الذي تحول إلى آلة منتجة لخدمة الزعيم والوطن، وحدثت بالفعل ثورة علمية استطاعت أن تصنع الآلة والقنبلة الذرية وأن تجهز الجيوش القادرة على اجتياح أوروبا، لولا اصطدامها بالحلف العالمي الجديد..

لكن المفارقة أن العرب راقت لهم الفكرة المهزومة في الحرب العالمية الثانية، وحاولوا أن يجسدوا قوتها الجسدية مرة أخرى على الأرض، فاستوردوا الشعارات والآلة الإعلامية، وحولوا التعليم والثقافة والفن في خدمة النظام، لكنهم بالرغم من ذلك لم ينجحوا في تحويل الإنسان إلى منتج، بل كانت أشبه باستيراد بضاعة مزيفة وخاوية من الجودة، لكن مدججة بأيديولوجية الصراخ في ميكروفونات الإذاعة، ومن سخرية الأمر أن بعضهم لا يزال إلى اليوم يعتقد أنه سيصنع التاريخ والقوة من خلال التنظيم الشمولي الهزيل برغم من مسلسل الهزائم والانكسارات الحضارية والعسكرية.

كانت ولا زالت شعارات العرب خاوية لدرجة أن قرنهم الماضي قد يتم اختزاله في مجرد أقاويل وخطب يرددها بعض المؤدلجين والعامة، وأعتقد أن أكثر مقولة سياسية فارغة من محتواها كانت ولا زالت تُردد هي لجمال عبدالناصر: (الخائفون لا يصنعون الحرية... والمترددون لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء) ..هي مقولة تكاد تفقد كل معانيها، وتنقلب إلى مجد هزلي إذا تمت المقارنة بين ما حدث على الأرض وبين صدى هذا الشعار في زمن الناصرية. يأتي أيضاً في هذا السياق مقولات لا حصر لها، لكنها تتفق مع منطق خلو النظرية من المضمون، إذ لم يعرف العالم العربي في تلك الحقبة أي حرية، ولم يستطع أن يتجاوز أدنى تحدياته أمام العدو.. فالمستورد الشمولي سقط بامتياز في العالم العربي في حين نجح في تكوين قوة لا يستهان بها في إيطاليا وألمانيا شكلت النواة لدخول عصر الصناعة الحديث.

كان ولازال العالم العربي في زمن شعارات التحرير والسلام المستهلك الأول في العالم للأسلحة، فقد بذلوا قدراً هائلاً من مدخولاتهم المالية في شراء الأسلحة، فكانت النتيجة ساحقة بكل المقاييس، ليس فقط في الجبهات العسكرية، ولكن على مختلف الأصعدة، فالاستبداد كان المضمون الذي يختبئ خلفه قناع الحرية المزعوم، وانعدام البنى التحتية أسقط البناءات الهزيلة بعد موت الزعيم، فلا مؤسسات ديمقراطية ولا تداول للسلطة، ولم تتبدل أحوال الإنسان، ولم تحوله المؤسسات الشمولية وآلة البروباجندا الإعلامية إلى إنسان منتج وقادر على العطاء، ولكن جعلت منه إنساناً مشلول الإرادة ومستهلكاً لا يشق له غبار، لكن الإنجاز الأهم في العالم العربي كان بلا منازع بناء الزنازن وازدياد المساجين والعمل على صرف الاستثمارات الطائلة من أجل توسعتها المستمرة، و قد كان الإنجاز الذي تجاوزت نجاحاته تجارب كثير من الدول الشمولية في القرن العشرين.

نجحت الأيدولوجية الشمولية في الغرب في تأسيس أوطان قوية، وإن غابت عنها شمس الحرية التي لم يتشدقوا بها بل حاصروها في بلادهم، كذلك نجح الغرب قبل ذلك في تحويل الفلسفة اليونانية إلى قيم حداثية قادت التغيير إلى المجد العالمي، و أجادوا بعد ذلك في زمن الديمقراطية التي أصبحت تطبيقاتها في بلادهم مثالاً للنزاهة والشفافية. بينما فشل العرب في الشمولية وفي الديمقراطية وفي تحويل قيمهم إلى مبادئ إعلان تحرير من عقول التخلف والاستبداد. ومن أجل أن يخرج العرب من دوائر الفشل عليهم - أولاً - الخروج من ثقافة البروباجندا الإعلامية، وأن يُدركوا أن الإنجاز ليس عنواناً مثيراً على صفحات الجرائد أو صور يتم توزيعها على وكالات الأنباء، لكن عملا مستمرا هدفه الأول إخراج الإنسان من مستهلك هزيل إلى قدرة بشرية منتجة في أجواء الحرية والمساواة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد