Al Jazirah NewsPaper Monday  30/11/2009 G Issue 13577
الأثنين 13 ذو الحجة 1430   العدد  13577
الشيخ عبدالرحمن بن سعدي والتعليم الشرعي الأهلي
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

كان مما أشير إليه باختصار في الحلقة السابقة كتب تناولت حياة الشيخ عبدالرحمن، رحمه الله، ونسبه ومولده. وقد يقبل من يقبل مقولة: (الإنسان ابن بيئته).

بدرجةٍ ما، فما البيئة التي نشأ فيها ذلك الشيخ الجليل؛ إضافة إلى بيئته الأسرية؟

كان مولده بعد شهور من معركة المليداء، التي كانت فادحة على أهل القصيم بعامة وعلى أهل عنيزة بخاصة؛ إذ قتل من أهل هذه البلدة وحدها أكثر من ثلاثمئة رجل بمن فيهم أميرها زامل بن سُلَيم المشهور. وللمرء أن يتصور مدى الفاجعة إذا أخذ حجم البلدة السكاني حينذاك بعين الاعتبار. وما إن بلغ المتحدث عنه الخامسة عشرة من عمره حتى رأى إقليمه ملتقى معارك بعضها حاسم بين قوى حكم نجدية يساند بعضها قوة خارجية. وعندما بدأ يدرِّس التلاميذ مع استمراره في الدراسة على أساتذته كانت قد تبلورت لدى الملك عبدالعزيز، رحمه الله، فكرة العمل على استقرار البادية، وربطهم بالأرض بدلاً من التنقل والترحال؛ وذلك لدواعٍ لا يتسع المجال، هنا، لتحليلها. وكان يعلم أن الفعالة لإقناعهم بالاستقرار لا بد أن تكون دينية الطرح؛ ولاسيما في ظل حكم قام أساساً على مبدأ ديني واضح. ومن هنا قامت ما سميت في تاريخ الوطن الحديث بحركة الإخوان المشهورة، التي نشأ عنها تكوين القبائل البدوية مستقرات سميت كل واحدة منها (هجرة). وتكوّن من أولئك الإخوان قوة كانت سلاحاً ماضياً في يد ذلك الملك المحنك لتوحيد مناطق مهمة من الوطن. وكان من الدعاة الذين بعثوا إلى مواطن البادية ومستقراتهم الجديدة من كانت الحماسة الدينية لديهم أكثر من معرفتهم أصول الدين وفروعه المعرفة المرجوة. وكان لذلك أثره السلبي، فيما بعد، وإن كانت له دواعيه وفائدته الوطنية الخاصة في مرحلة من المراحل.

في ذلك الجو المتقد حماسة كان هناك علماء شريعة لا يعوزهم الإدراك الواعي والفهم الصحيح للدين الإسلامي؛ أصولاً وفروعاً. وكان من أولئك العلماء في عنيزة بالذات الشيخ صالح بن عثمان القاضي، الذي كانت ملازمة الشيخ عبدالرحمن السعدي له طويلة نافعة. وكان من أعظم الأدوار التي قام بها الإخوان في عملية توحيد البلاد تحت راية الملك عبدالعزيز، ذلك الذي كان من نتائجه توحيد منطقة الحجاز مع بقية المناطق عام 1344هـ، ومما يلفت النظر أن ذلك الإنجاز الكبير تزامن مع بلوغ الشيخ عبدالرحمن السعدي مبلغاً عظيماً من النضج المعرفي؛ بل ومن العطاء الفكري المميز؛ إذ أكمل في ذلك العام نفسه تفسيره للقرآن الكريم في ثمانية مجلدات؛ وعنوانه: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان.

ولقد أدرك منزلة الشيخ العلمية حينذاك عدد من معاصريه، ولعل من أدلة ذلك أن الملك عبدالعزيز عندما كان في الحجاز في العام المشار إليه قدم إليه علماء الهند في موسم الحج عدداً من الأسئلة تتعلق بما دعا إليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأنصاره. وكان الملك قد عيّن الشيخ عبدالله بن بليهد فقيداً للبلاد، فأحال تلك الأسئلة إليه طالباً أجوبة عنها. فما كان من الشيخ عبدالله إلا أن بعث بها مع رجل من قبيلة عتيبة إلى الشيخ عبدالرحمن في عنيزة؛ موجهاً له أن يسلمها للشيخ بيده، ويأتي برده عليها دون أن يعلم بذلك أحد.

فلما قدّمها الملك إلى علماء الهند سروا بها، واقتنعوا بما ورد فيها. فلما شكر الملك الشيخ عبدالله عليها معتقداً أنها من كتابته أجابه بأن الجواب من الشيخ ابن سعدي.

ومع أن مواهب الشيخ عبدالرحمن الذاتية كان لها الدور الأكبر والأهم في بلوغه ما بلغ من مكان علمية متميّزة، فإن من الواضح أن الينابيع العلمية ممثلة في العلماء الأفاضل الذين تلقّى العلم عنهم أثره الذي لا يستهان به في الوصول إلى ما وصل إليه تحلياً بأخلاق فاضلة، وإبداء لمواقف نبيلة، وتفتحاً على مستجدات معاصرة مهمة. ونظرة متأملة في سيرة أبرز أولئك العلماء تعين على استجلاء أثر ذلك.

كان من أساتذة الشيخ عبدالرحمن الشيخ عبدالله بن عايض المولود في عنيزة عام 1249هـ، والمتوفى بها عام 1322هـ. وكان قد وصل إلى الحجاز ومصر لطلب العلم، وتولى القضاء في عنيزة. وقد قرأ عليه الشيخ عبدالرحمن في الفقه وأصوله وعلوم اللغة العربية. وله مؤلّف في المقامات الأدبية، كما أن له قصصاً تنبئ عن انصافه بالمرح وسرعة البديهة. على أن ذلك الأستاذ توفي وعمر الشيخ عبدالرحمن لم يتجاوز الخامسة عشرة.

وكان من أساتذة الشيخ عبدالرحمن الشيخ إبراهيم بن جاسر، المولود في بريدة عام 1241هـ والمتوفى بالكويت عام 1328هـ. وكان ممن سافروا إلى الشام لطلب العلم، ونال قسطاً وافراً من علم الحديث ومصطلحه، وقد قرأ عليه الشيخ عبدالرحمن فيهما، وتولّى القضاء في عنيزة سنوات. على أن مما اشتهر به الورع والصراحة في الحق. وله في ذلك وتلك قصص معروفة.

ومن أساتذة الشيخ عبدالرحمن الشيخ صالح بن عثمان القاضي - كما سبق أن ذكر -. وقد تعلّم في الأزهر، ودرس في الحجاز، كما تولّى إمامة الحنابلة في الحرم المكي مدة قصيرة. وتولّى قضاء عنيزة وإمامة المسجد الجامع فيها من عام 1324هـ إلى سنة وفاته 1351هـ. وقد لازمه الشيخ عبدالرحمن طويلاً، ودرس عليه في التوحيد والتفسير والفقه وأصوله والنحو. وكان مضرب المثل في الذكاء والفراسة. ومن أساتذة الشيخ عبدالرحمن المحدّث علي أبو وادي، الذي سافر إلى الهند، وأخذ عن علمائها الحديث، وتولّى إمامة مسجد الجديّدة في عنيزة حتى وفاته سنة 1361هـ. وقد اشتهر بالورع. قرأ عليه الشيخ عبدالرحمن في الحديث وأصوله والتفسير وأصوله.

ومن أساتذة الشيخ عبدالرحمن محمد بن عبدالكريم الشبل، الذي سافر إلى الحجاز ومصر والشام والعراق طلباً للعلم، وتوفي بعنيزة عام 1343هـ. وقد قرأ عليه الشيخ عبدالرحمن في الفقه وأصوله وعلوم العربية.

ومن أساتذة الشيخ عبدالرحمن، أيضاً، العالم محمد الأمين الشنقيطي الذي قدم إلى عنيزة، وأقام فيها مدة قبل ذهابه إلى الزبير حيث أنشأ مدرسة النجاة المشهورة. وتوفي هناك عام 1351هـ؛ أي العام الذي توفي فيه الشيخ صالح بن عثمان القاضي. ومما درس عليه الشيخ عبدالرحمن علوم العربية، لكن أهم ما أخذه عنه كان طريقته الجيدة في التدريس.

على أن أثر أساتذة الشيخ عبدالرحمن المقدّر كل التقدير في تحصيله العلمي؛ كل في مجال تخصصه وفي الميدان الذي درسه عليه كان إلى جانبه أثر آخر أعظم أهمية منه؛ وهو انفتاحه على معين تراث الشيخين الكبيرين ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم، واستيعابه الواضح لذلك التراث الغني بجوانبه المختلفة(1). والمتأمل في آرائه التي تنمّ عن اجتهاد واع مقيّد بالدليل من القرآن والسنة - وإن لم يكن متفقاً مع المذهب الحنبلي أحياناً - أكبر برهان على تلك الأهمية.

***

(1) هناك دراسات كثيرة عن ابن تيمية بالذات. منها الدراسة الوافية التي كتبها العالم الجليل محمد أبو زهرة. على أن من أروع هذه الدراسات عمقاً وتحليلاً، دراسة المستشرق الفرنسي هنري لا ووست. وترجمة عنوان تلك الدراسة: نظرية ابن تيمية السياسية والاجتماعية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد