Al Jazirah NewsPaper Thursday  03/12/2009 G Issue 13580
الخميس 16 ذو الحجة 1430   العدد  13580
ملك بحجم الوطن.. وطن بحجم الأمل
د. عبدالعزيز أبانمي

 

تكشف لنا حوادث التاريخ وقصص الانجازات وسجلات العظماء أن مما يميز القادة عن الأشخاص العاديين هو عدم انحصار التفرد والإبداع لدى هؤلاء القادة في صفة واحدة بعينها.

ففي الوقت الذي يقتصر التفنن والإتقان لدى الأفراد العاديين على جانب واحد يتفرد القادة باجتماع العديد من الصفات الإبداعية فيهم وبروز أكثر من جانب خلاّق لديهم فتحسب وأنت تتعامل معه واحد منهم وكأن الصفات المتنوعة للإبداع أصبحت جميعها صفة ألمعية واحدة في شخصه.

وتخبرنا حوادث التاريخ وقصص الإنجازات وسجلات العظماء أيضا بأنه بحجم التميز الإبداعي لدى القادة يكون حجم الفرق النوعي الذي يصنعونه وامتداد تأثيره وعمق منزلته. كما وأنها تخبرنا بأنه بحجم الفرق الذين يصنعه هؤلاء القادة يكون مستوى المنزلة التي يسكنون بها في أفئدة شعوبهم.

ونتعلم كذلك من حوادث التاريخ وقصص الإنجازات وسجلات العظماء أن النجاح ديدن متواصل للقادة وأن التصدي لصعاب الأمور هو نهجهم الدائم وأن إضاءة المظلم من دروب كي يسير عليها الآخرون هو طبعٌ أصيلٌ فيهم، وأن رسم المنهج المستقبلي الاستراتيجي واستشفافه هو فنٌ يتقنونه. وهم فوق ذلك كله يملكون من التواضع ما يجعلهم أقرب الناس إلى الناس؛ ويملكون من الثقة بالنفس ما لا يحتاجون معه إلى التمثيل والادعاء بعدم اهتزازهم عند الملمات؛ ويملكون من القدرة على الإدارة ما يجعلهم أكمل أنموذج في اللامركزية وإسناد المهمات إلى من تتشرف المهمات نفسها أن تكون تحت إمرتهم.

ويضعنا التطور النوعي المستمر في بلدنا هذا عبر سنوات طويلة أمام حقيقة واضحة لا تقبل الشك ولا يعتري أنفسنا تردد في القبول بها وهي أن من أمسك بزمام أمور وطننا الغالي من قبل ومن يمسك بها الآن يرتقون لا إلى مستوى التطلعات فحسب بل ويرتقون بهذه البلاد فوق الملمات وينأون بها عن تحمل الخارج عن القدرة من الصعاب فهم دوماً بحجم الحدث أياً كان هذا الحدث.

وتحضر في أذهاننا هذه الأيام صور الدمار والخراب الذي لحق بكثير من مفاصل جدة وتتناهى إلى أسمعنا صرخات الاستغاثة لمن جرفهم متعاظم السيول وهم لا يملكون أي حول أو قوة غير الدعاء بالويل والثبور على من خان الأمانة وطعن خاصرة الوطن، وتمتلئ أعيننا بالدموع ونحن نسمع ونقرأ قصص الفقد ومآسي الموت ونشاهد بأم أعيننا مخلفات الكارثة.

وما حدث في جدة كان أمراً مؤلماً أشد ما يكون الإيلام ولا شك أنه كشف عن مُسلّمةٍ واضحة هي أنه عندما يجتمع التقاعس عن أداء العمل على أكمل وجه مع ضرب الفساد لأطنابه وغياب التخطيط وتغليب المصالح الشخصية وتجاهل توجيهات ولاة أمر هذا البلد تحدث الكارثة حتى ولو بعد حين فيكون الضحايا كثر والمصاب جلل والحزن في الأنفس أعَم. وفي جدة اتسعت رقعة الآثار الكارثية لمطر اليوم الواحد لتصبح بحجم اتساع رقعة الفساد والإهمال والتراخي وخيانة الأمانة في أكثر من قطاع. ولأن حجم المصيبة عظيم كان التفاعل الملكي من قبل خادم الحرمين الشريفين بحجم المصيبة وبحجم الأمل في التغلب على الآثار الكارثية التي نتجت لا عن العاصفة فحسب بل عن التقاعس في أن يتحمل من كان السبب في ما حصل الأمانة التي سلمه إياها قادة الوطن. وضع النقاط على الحروف وتسمية الأشياء بمسمياتها ورسم طريق المحاسبة عبر القرار الملكي يضعنا على أعتاب خطوة جديدة ومرحلة مفصلية قادمة من التعاطي مع أساليب التنمية ووضع خطط التطور تتمثل ملامحها فيما يلي:

1- كعادة قادة هذا البلد وديدنهم منذ وضع الملك عبدالعزيز أسسه، لن يتوانوا رعاهم الله في أن يتحملوا بأنفسهم وبشكل مباشر ودقيق متابعة الصغيرة والكبيرة والبحث عن كل ما يمكنه أن يسهم في رقي الوطن وراحة المواطن.

2- أنّ خُلق الحِلم الذي يتصف به قادة هذا البلد وسعة صدرهم لا تعني البتة أن يستغله البعض لتحقيق مصالحهم الشخصية على حساب أرواح المواطنين وممتلكاتهم، فالمواطن وتحقيق أعلى درجات الرخاء له خط أحمر لا يمكن التعدي على حقوقه.

3- أن في محاسبة من كان مسئولاً فيما مضى ومقصراً فيما سبق رسماً للطريق التي ينبغي بمن هو يدير الآن أمور وزارة ما أو جهة حكومية ما أو من سيكون مضطلعاً بأي مسئولية مستقبلية أن يسلكها.

4- أن المتغيرات التنموية واحتياجات التطوير ومعطيات التقدم ومقارعة الغير في مضمار التنافس العالمي تتطلب وضع ملامح جديدة لمنهجيات الإدارة والمتابعة وتوظيف إجراءات جديدة ربما لم تكن مألوفة من قبل للقضاء على مصادر السلبيات والفساد. فالقدرة على النجاح ممكنة جدا غير أن المحافظة على مثل هذا النجاح تتطلب عناصر إبداعية متغيرة وتطورا مستمرا في أساليب المراقبة والمتابعة والتقييم وقياس فعالية الأداء والكفاءة. والتطلع إلى المستقبل لا بد أن يمر عبر بوابة الماضي من خلال تعزيز النقاط الإيجابية واكتشاف مكامن القصور لتجنبها.

5- أن الاعتراف بالأخطاء مطلب ملح مادام أن هناك ممن يخون الأمانة ويبيع وطنه ويسقط أمام إغواء الفساد وان الضرب بيد من حديد على مواطن الفساد سيكون الخطوة الأولى في طريق الحفاظ على مكتسبات التنمية.

ومن الواضح بلا شك أن هذا القرار الملكي يضعنا على أعتاب مرحلة جديدة مختلفة فيما يخص عملية تنمية وتطوير هذا الوطن، عملية تأخذ بعين الاعتبار معطيات عديدة تمخضت عن ورشة التطوير والبناء المستمرة منذ فجر أول يوم وُضعت فيه لبنة إعمار هذا الوطن الأولى، ومن تلك المعطيات أن عمليات الصرف المالي الهائلة على مختلف المشاريع تتسبب في أن يضعف البعض من المرتبطين ارتباطاً مباشراً وغير مباشر بمثل هذه المشاريع أمام إغراء المال وإغواء النفس الأمارة بالسوء فتصبح المصلحة الشخصية هي الأولى حتى وإن كانت على حساب الوطن والمواطن وعلى حساب خيانة الأمانة التي شرّفهم بها ولاة الأمر. غير أن ما يبعث على القلق أكثر هو حجم ذلك الفساد الذي استشرى في جسد جدة بهذا الشكل فكانت الكارثة التي أفزعتنا جميعاً.

والفساد، وهو الذي لا يقتصر على صورة واحدة، متى ما بدأ في الانتشار أصبح أمر التخلص منه وتضييق دائرته مهمة صعبة تستهلك الكثير من الزمن والجهد. ومشكلة الفساد أنه يأخذ ضروباً عدة، فالتقاعس عن أداء العمل فساد، وغض النظر عن مكامن الخلل فساد، والسكوت عن الممارسات الخاطئة التي تضر ببناء الوطن وتنميته فساد، وصرف الأموال في مبانٍ ومشاريع لم يخطط لها جيداً فساد، وتوزيع الأراضي والمخططات السكنية في مناطق السيول والأودية فساد وشراء الذمم وتعيين المستشارين لخدمة مصالح معينة دون حسيب أو رقيب وتوظيف الإعلاميين للتطبيل فساد. وفي جدة كشفت الكارثة عن أن دائرة الفساد اتسعت لتشمل تلك الأوجه السابقة والضروب المتعددة بل وأكثر. من هنا كانت الطبيعة الكارثية لآثار مطر اليوم الواحد.

ولأن الأمر في مدينة جدة أصبح في حاجة إلى حل حاسم وسريع، أتى القرار الملكي بأن يتولى فريق معالجة المشكلة هناك ويقود مسيرة المحاسبة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل صاحب الشخصية الحازمة والتجربة التنموية التطويرية الناجحة في منطقة عسير والذي يمثل اختياره نقطة مفصلية في تاريخ التجربة التنموية السعودية وفصلا آخر من فصولها. ولا شك أن أمام سموه مهمة صعبة تستدعي المتابعة الدقيقة والدراسة المتأنية والعودة إلى ما كان مُغبرَاً من ملفات كي يكون الحساب كأكمل ما أمكن لحساب أن يكون. غير أن الثراء في قصة نجاح سموه والمخزون الكبير من القدرات الإدارية لديه والصفات القيادية التي تسكن شخصيته مجتمعة مع الدعم الكامل اللامحدود والثقة المطلقة من قبل قيادة هذا الوطن ستجعل منه قادراً على القيام بالمهمة على أكمل وجه.

والأمر المؤكد الآخر هو أن هذا القرار الملكي لا يمثل إنذاراً لمن أخفق في مهامه من قبل وتسبب في الكارثي من نتائج فحسب بل هو رسالة واضحة لمن تسنموا شئون إدارة مختلف الجهات الحكومية أن وقت المحاسبة قد حان وأن لا مجال للإخفاق. هذا القرار ما هو إلا خطة عمل مستقبلية تحدد بشكل دقيق أن قطار القضاء على الفساد قد انطلق وأنه لم يعد هناك أي مجال أمام أي مسئول أسرف في صرف الأموال على مشاريع ومبانٍ ضخمة دون خطط مدروسة أو أكثر من الظهور الإعلامي المكثف لتسويق التخبط في رسم التنظيمات ومحاولة استغفال القاصي والداني للتغطية على الأخطاء أو عجز عن تلبية متطلبات التنمية البشرية والمادية رغم ما قدمته الدولة رعاها الله من تسهيلات مالية ومعنوية، لم يعد أمام كل هؤلاء إلا وضع هذا القرار نصب أعينهم والعمل على محاسبة أنفسهم بأنفسهم واستدراك أخطائهم.

القرار الملكي هذا ينبغي أن يكون بداية حملةٍ شاملةٍ لكشف مواطن الفساد والإشهار به والتخلص منه بكل ما أوتي هذا الوطن من قوة. وينبغي ألا يقتصر الأمر على مجرد جهة ما، بل يتعين أن يصبح القضاء على الفساد ثقافة تُدرّس ووعياً يتكرس في نفوسنا جميعاً وممارسةً يوميةً كي يكون هذا الوطن كما نريد، كي يكون كما نحلم، كي يكون معنا أينما كنا.

المحاسبة ينبغي ألا تقتصر على من كان فاسداً فحسب، بل أنه من الضروري أن تمتد يد المساءلة لتشمل كل من تسبب في إعاقة التنمية بقصور نظرته وعدم قدرته على تطوير نفسه وبالتالي تطوير القطاع الذي يشرف عليه.

شكراً يا ملكاً بحجم وطن يحبك ويعشقك، وشكراً يا وطنا يبعث فينا الأمل دوماً رغم أنف الفاسدين.



abanom@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد