Al Jazirah NewsPaper Friday  04/12/2009 G Issue 13581
الجمعة 17 ذو الحجة 1430   العدد  13581
رجال صدقوا: (عبدالله بن مسعود)
د. محمد بن سعد الشويعر

 

صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام كلّهم عدول ثقات، أجابوا الدعوة فسبقوا إلى الإسلام، وجالسوا رسول الله، فأخذوا عنه العلم، وقرؤوا القرآن حين نزوله فحرصوا على التطبيق، وحُسْن القدوة، فاستحقوا الخيرية،

....والمنزلة الرفيعة عند الله، يقول سبحانه: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? الآية (سورة آل عمران 110) ويقول عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني ثم الذي يلونهم)، ونهى عن سبّ أصحابه وقال: (فإن أحدكم لن يبلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)، وهم الذين نقلوا لمن بعدهم سنته بأمانة وورع رضي الله عنهم.

وعبدالله بن مسعود واحد من أكابر الصحابة، فضلاً وعلماً، وعقلاً وسابقة إلى الإسلام، فكان شديد التقرب من رسول الله، وكان من المهاجرين الأولين إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وأخباره وسيرته موجودة، في حوالي (40) من المصادر العلمية، وله مدرسة كبيرة في طبقة كبار التابعين وعلمائهم أخذوا عنه، وله في الصحيحين وحدهما (848) حديثاً، كما أورد الجاحظ في كتابه البيان والتبيين بعضاً من خطبه، ومختارات من كلامه.

أما اسمه فهو عبدالله بن غافل بن حبيب، وينتهي نسبه إلى هذيل بن مدركه بن الياس بن مضر، كنّاه رسول الله بأبي عبدالرحمن، قبل أن يولد له، وكان هُذلياً حليفاً لبني زهرة، فقد كان أبوه مسعود قد حالف في الجاهلية عبد بن الحارث بن زهرة، وأمّ ابن مسعود أم عبد بن عبد دود بن سُواء بن قريم، من هذيل أيضاً، وأمها هند بنت عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب.

فهو مكي لمحالفة والده عبد بن الحارث. وعن أول لقاء له برسول الله ما قاله هو كما جاء عند الذهبي قال: إنّ أول شيء علمته من أمر رسول الله أني قدمت مكة مع عمومة لي، أو أناس من قومي، نبتاع منها متاعاً، وكان في بغيتنا شراء عطر، فأرشدونا على العباس رضي الله عنه، فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه، فبينما نحن عنده إذْ أقبل رجل من باب الصفاء، أبيض تعلوه حمرة، له وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه، أشمّ أقنى أذلف، أدعج العينين، براق الثنايا، دقيق المشربة، شثن الكفين والقدمين، كثّ اللحية، عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام، حسن الوجه، مراهق أو محتلم، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد نحو الحجر فاستلم، ثم استلم الغلام، واستلمت المرأة، ثم طاف بالبيت سبعاً، وهما يطوفان معه، ثم استقبل الركن فرفع يده وكبر، وقام ثم ركع ثم سجد، ثم قام، فرأينا منه شيئاً أنكرناه لم نكن نعرفه بمكة.

فأقبلنا على العباس فقلنا: إنّ هذا الدين حَدَثٌ فيكم، أو أمر لم نكن نعرفه؟ قال: أجل والله ما تعرفون هذا، هذا ابن أخي محمد بن عبدالله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته، أما والله ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة. قال ابن شيبة: لا نعلم أحداً روى هذا إلا بشر الخصّاف، وهو رجل صالح.

وروى زرّ بن جيش بطرق متعددة أنّ عبدالله بن مسعود قال: كنت أرعى غنماً لعقبة بن أبي مُعَيْط فمرّ بي رسول الله وأبوبكر، فقال: يا غلام، هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: فهل من شاة لم يَنْزُ عليها الفحل؟ فأتيته بعناق - أو جذعة - فاعتقلها رسول الله فجعل يمسح الضّرع، حتى أنزلت، فأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فاحتلب فيها، ثم قال لأبي بكر: اشرب، فشرب أبو بكر ثم شرب النبي بعده ثم قال للضرع: أقْلِصْ - أي اجتمع - فقلص فعاد كما كان، ثم أتيت فقلت: يا رسول الله علمني من هذا الكلام - أو من هذا القرآن - فمسح رأسي، وقال: إنك غلام معلّم، وفي رواية ابن عساكر: ثم أتيت النبي بَعْدُ، فقلت: يا رسول الله علمني من هذا الكلام الخير.

وعن إسلامه فإنّ ابن مسعود من السابقين إلى الإسلام؛ فقد رُويَ عنه قوله: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن ستة، فقال المشركون، اطردْ هؤلاء عنك، فلا يجترئون علينا، وكانوا سعد ابن أبي وقاص، وعبدالله بن مسعود، ورجل من هذيل، ورجلين نسي سعد اسميهما، فوقع في نفس النبي ما شاء الله, وحدث به نفسه، فأنزل الله: ?َلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ? الآية (سورة الأنعام 52).

وعن جرأته بالجهر بالإسلام، وتحدّي مشاعر المشركين، روى الإمام أحمد في مسند عبدالله بن مسعود بالسند إلى عروة بن الزبير قال: كان أول من جهر بالقرآن بمكة، بعد رسول الله، عبدالله بن مسعود، فقد اجتمع يوماً أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمن رجل يُسمعهم؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إنْ أرادوه، فقال: دعوني فإن الله سيمنعني.

فغدا عبدالله حتى أتى المقام في الصخر، وقريش في أنديتها، حتى قام عنده، فقال رافعاً صوته: ?ِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ? فاستقبلها، فقرأ بها، فتأملوا فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أنْ يبلغ ثم انصرف، إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله قط أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً؟ قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون. وقال يزيد بن رومان: أسلم عبدالله بن مسعود قبل دخول النبي دار الأرقم عليه الصلاة والسلام، وكان أول من أفشى القرآن بمكة من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعاً، في رواية أبي معشر ومحمد بن عمر.

فكان من السابقين إلى الإسلام، الأقوياء في دينهم، الحريصين على التعلُّم والتفقه، فقد روي عن زر بن حبيش أنه قال أول من قرأ آية عن ظهر قلب عبدالله بن مسعود، فكان من أحفظ الصحابة لكتاب الله، حتى كان مدرسة يؤخذ عنه في القراءة، وحسن الحفظ لكتاب الله عز وجل، ودلالة المعنى، وسبب النزول.

أما عن رابطته برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما أسلم أخذه رسول الله إليه، وكان يخدمه، وقال له: إذْنُك عليَّ أن تسمع سِوادي، ويرفع الحجاب، والسِّواد: المراد به السّرّ، قالوا: هو مأخوذ من إدناء سوادك من سوادي، عند المسارة، أيْ إدناء شخصك من شخصه. وقال عبدالله بن أحمد: قال أبي: سوادي سِرّي، إذنَ له أن يسمع سرّه.

فكان يلج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ويلبسه نعله، ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وكان يعرف في الصحابة بصاحب السِّواد والسِّواك، ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه (إذنك عليّ أنْ يرفع الحجاب، وتسمع سِوَادي حتى أنهاك).

قال أبو موسى الأشعري: قدْمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً، وما نحسب ابن مسعود وأمّه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة دخولهم وخروجهم عليه. وقال أبو عمرو الشيباني: أتيت أبا موسى فذكرت له قول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحَبْر بين أظهركم، فوالله لقد رأيته وما أراه إلا عبْداً لآل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن مسعود: كانت أمي تكون مع نساء النبي بالليل، وكنت ألزمه بالنهار.

وهذا من محبتهما له صلى الله عليه وسلم، وحرصهما على خدمته وإدخال السرور عليه، ولذا نرى عبيدالله بن عبدالله بن عُتْبة وهو ممن لازم عبدالله بن مسعود، وأخذ عنه، يقول: كان عبدالله بن مسعود صاحب سِوَاد النبي صلى الله عليه وسلم، يعني سِره، ووساده يعني فراشه، وسِواكه ونعليه وطهوره، وهذا يكون في السّفر. ويقول القاسم بن عبدالرحمن: كان عبدالله بن مسعود يُلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم نعليه، ثم يمشي أمامه بالعصا، حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه، فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد رسول الله أنْ يقوم ألبسه نعليه، ثم مشى بالعصا أمامه، حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه دخل النبي عليه الصلاة والسلام حائطاً، فاتبعته بإداوة من ماء، فقال: من أمرك بهذا؟ قلت: لا أحد. قال: أحسنت. قال: وقال: أبشر بالجنة والثاني والثالث والرابع فجاء أبو بكر وعمر فبشرتهما، وجاء عليّ فبشرته.

وأخرج البخاري ومسلم حديثاً مرفوعاً بسنده إلى رسول الله، قال فيه ابن مسعود، قال لي رسول الله: اقرأ علي سورة النساء؟ قلت أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ فقال لي رسول الله: (إني أحبّ أنْ أسمعه من غيري)، فقرأتُ عليه وكان صوته بالقرآن حسناً، حتى بلغْتُ ?فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا? (سورة النساء41) إلى آخر الآية، فقال: حَسْبكَ.. فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان، صلى الله عليه وسلم.

وكان عبدالله بن مسعود يستر رسول الله إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويمشي أمامه في الأرض وحشاً.

قال علقمة: يشبه بالنبي في هديه ودلّه وسمته، وكان علقمة يشبه بابن مسعود، وقال حذيفة: إنّ أشبه الناس هدياً ودلاً وسمتاً بمحمد صلى عليه وسلم عبدالله بن مسعود، من حين يخرج إلى أنْ يرجع، لا أدري ما يصنع في بيته. وروى عليّ رضي الله عنه قوله: قال رسول الله: لو كنْتُ مؤمّراً أحداً دون شورى المسلمين لأمّرت ابن أم عَبْد.

وكان له ساقان دقيقتان جداً، كما روى الإمام أحمد قال: قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود فصعد على شجرة، يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبدالله فضحكوا من حموشة ساقيه - أيْ دقتهما - فقال صلى الله عليه وسلم: (ما تضحكون؟) لَرِجل عبدالله أثقل في الميزان يوم القيامة من أُحد. وعن حُسْن تعليمه وورعه حدث الأعمش بسنده إلى عليّ رضي الله عنه فقال: ما رأينا رجلاً أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشدّ ورعاً من ابن مسعود. قال عليّ رضي الله عنه: أنشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد أني أقول مثل ما قالوا وأفضل. وأخرجه الحاكم في مستدركه.

وفي وصفه: فقد كان قصير القامة، قد تزْدَريه العين من غير معرفة، نحيف البدن، وقد حدّث الأعمش عن زيد بن وهب، قال: كنت جالساً في القوم عند عمر، إذ جاء رجل نحيف قصير، فجعل عمر ينظر إليه، ويتهلل وجهه، ثم قال: وعاء مليء علماً، وعاء مليء علماً، وعاء مليء علماً.. فإذا هو عبدالله بن مسعود.

ولديه أسلوب طيب في حسن الصحبة، والدعوة لدين الله بالرفق، يقول الخطيب البغدادي: قال إبراهيم النخعي، عن علقمة قال: خرجت مع عبدالله بن مسعود من المدائن، فصحبنا مجوسيٌ، فلما كنا ببعض الطرق تخلف عبدالله لحاجته، ثم لحق بنا، وقد عرض للمجوسي طريق، فأخذ فيه، فأتبعه السلام، وقال: إن للصحبة حقاً.

ولسعة علمه، وكثرة حفظه، يعلل ذلك أبو موسى الأشعري بقوله: كان ابن مسعود يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غبنا، ويُؤذن له إذا حُجبنا، ويقول ابن مسعود نفسه: أقرأني رسول الله صلى عليه وسلم سبعين سورة فأحكمتها، قبل أن يسلم زيد بن ثابت، وعمر بن الخطاب يشهد له بالمكانة الرفيعة في علمه، فقد جاء قيس بن مروان إلى عمر فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلا يُملي المصاحف عن ظهر قلبه، فغضب عمر وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شُعبتي الرّحل، فقال: ويحك ومن هو؟ قال: عبدالله بن مسعود.

فما زال يطفأ، ويسير عنه الغضب، حتى عاد على حاله التي كان عليها، ثم قال: ويحك والله ما أعلمه بقي من الناس أحد هو أعلم بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في الأمر من أمور المسلمين، وإنه سمر عنده ذات مرّة، وأنا معه، فخرج رسول الله وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلي في المسجد فقام رسول الله يستمع قراءته، فلما كدنا أنْ نعرفه قال صلى الله عليه وسلم: (من سرّه أن يقرأ القرآن رطبا، كما أُنْزل، فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد).

ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله يقول: (سَلْ تعطه... الحديث)؛ لذا أرسله عمر إلى الكوفة ليعلّم الناس، ويقرئهم القرآن، كما استعمله على القضاء وبيت المال.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد