Al Jazirah NewsPaper Saturday  05/12/2009 G Issue 13582
السبت 18 ذو الحجة 1430   العدد  13582

من أين وإلى أين؟
د. إبراهيم بن عبد الرحمن التركي

 

قبل أكثر من ربع قرن رثى الدكتور غازي القصيبي - رده الله سالما - صديقه الأستاذ (يوسف بن عبدالله الحماد) -رحمه الله -، ولم يكن معروفاً خارج دوائر العمل الحكومي، لكن القصيدة استوقفت كثيرين ؛ فقد أشارت إلى رجل نزيه لم يتكسب بمنصبه الرفيع، وعهدنا بغازي أنه لا يجامل ولا يتجمل؛ فحفظناها ومطلعها:

أبا خالد.. ما أخلف الموت موعدا

ولا فرّ مطلوب وطالبه الردى

ولم تقصر الأعمار عن أجل لها

ولا طالت الأعمار إلا إلى مدى

وفيها:

عفيفا وأشباه الرجال تزاحموا

على سلب الدنيا قياما وقعدا

النزاهة في المال العام صفة كمال ما فتئنا نراها الفاصل بين من يستحق موقعه ومن لا يستحقه ؛ فما يلقى العفاف عن سلب الدنيا إلا من (رزقه الله كفافا وقنعه بما آتاه)، وقلة من هم، وخلد (أبو خالد) الذي لا نعرفه، ومضى أكثر المنتفعين والمرتزقين.

وفي وقت مقارب كنا نعمل على إصدار كتاب توثيقي عن (معهد الإدارة) في يوبيله الفضي، وعثرنا بين الوثائق على استمارة من أربع صفحات تخص أحد مسؤولي المعهد السابقين، وفيها بيان ممتلكاته (المنقولة والثابتة) متزامنة مع قرار تعيينه في المرتبة الأولى المكافئة لرتبة وكيل وزارة، وكانت تعني - بأيسر القول - تطبيق مبدأ (من أين لك هذا؟)؛ فمن أحصى ماله - قبل الوظيفة - ستسهل محاسبته على ما غنمه أثناءها وبعدها.

يبدو أن هذا النهج قد توقف بعدها ؛ فالمسؤول الكبير، مهما علا منصبه - ذو دخل محدود، لا يهيئه لثروات، أيا كانت الصفة التي تأتيه بها، ولو منحا وأعطيات، ومن يخاف الله يدرك أن حقه في هذه محكوم بجلوسه في بيت أمه ووصولها إليه دون طلب ومن غير مقابل، ويذكر أنه - في إحدى إجازات بعثته - زار مديرا له ترقى لمنصب ذي شأن؛ فقال له - بين ما قال -: لو أردت أن أكون (مليارديرا) لاستطعت دون شبهات أو مخالفات ظاهرة، لكني أخاف الله.

ومن تجارب مقاربة، يتعرض الموظف ذو العلاقة بمصالح الأفراد والشركات - في كل المستويات الإدارية - لإغراءات لا يصمد أمامها سوى الندرة، وعين أحدهم في موقع؛ فعرض عليه - في أسبوعه الأول - رحلة دولية بطائرة خاصة وإقامة باذخة، وأدرك أنه اختبار من الله؛ فإن قبل بهذه فعليه أن يتهيأ للتنازلات.

قبل سنوات صدر قرار هيئة مكافحة الفساد، وما زلنا نأمل أن يفعل سريعا ويشمل الجميع، ومن يقرأ بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية (ط 2 - 2006 م -971 صفحة) عن الفساد في البلاد العربية يدرك أن الأمر جلل، وأنه بات القاعدة والصلاح هو الاستثناء.

لا يكفي أن يقال المسؤول غير النزيه أو يتقاعد، وأخطاء اليوم ناشئة عن ممارسات الأمس، والغد للأجيال التي صدقت أننا مؤتمنون عليه وعليها، والله سبحانه المطلع والحسيب والرقيب.

ابتدأنا بغازي ونختم ببيت من قصيدته المؤثرة في رثاء نفسه - أطال الله عمره وبارك بعمله:

وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكنْ بَطَلاً

لكنه لم يقبل جبهة العار

وأي عار أكثر من أن نغش بني أبينا لتنتفخ جيوبنا، ولو مات من مات وتشرد من تشرد وعانى غيرنا الشظف لننعم بالترف.

الدنيا أمد والآخرة مدى

ibrturkia@ gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد