استوقفتني قبل بدء المحاضرة، تستأذن في تقديم سؤالها، وقد وطَّأت له بحيرة تملَّكتها، قالت، وبحزن عميق تغشّى وجهها، وباختلاط الكثير من الأسئلة، نحو العديد من المفاهيم،.. أيدتها رفيقات الدرس، فأذنت بلا تردد لها أن تقدم سؤالها، إذ نحن نؤمن بأن المعرفة خبرات يتداولها الفكر الإنساني، تنبثق عن سؤال، كما الحجر الذي يسد نبع النهر حتى إذا ما أزيح تدفق، جاء سؤالها بعيدا عن موضوع الدرس، غير أنه مستل مما في جوف مستنقع يكبر, يكبر, في مجتمع الناطقين بالشهادة.
آه..
تذكرتُ هذا المجتمع الذي كانت فيه النصوص الشرعية هي منطلق الأداء وسلوك التنفيذ، ومدار الحياة والتعامل والتفاعل والمعاش، المجتمع الذي تطمئن فيه المرأة لرسالتها، ويقوم فيه الرجل بولايته، المجتمع الذي يدري تماما أنَّ أوَّل ما يُسأل عنه الفرد فيه يوم السؤال, هو ما يرتبط بأمانة يحملها, قد جاءه بها رسول كريم, علم وهدى، وترك المحجة البيضاء فيه، دستوراً له، هي كتاب الله وسنته الشريفة عليه الصلاة والسلام.., وأنَّ من أبجديات هذه الأمانة, أسلوب التعامل مع النفس التي يعلم الله تعالى سرائرها, ودقائقها, بمثل ما يعلم ظواهرها وجلها، ويعرف ضعفها وقوتها، ووعد التائبين المستغفرين بالمغفرة، وأسلوب التعامل مع الآخر، سواء كان الآخر بشرا يلتقيه في عرق, أو يلتقيه في طريق، أو كان عملا يؤديه بينه ونفسه, أو مع الآخرين، يخصه فيحمل نتائجه، أو لغيره فيبوء بنواقصه، أو كان نوايا يتحرك بها، وفق ما تملي عليه الأفكار الباعثة لها، التي تشكلها في حسه، وتبلورها لقناعاته, أو تيسرها لأداءاته ومنحه مفاتيح النور، ودله على مغاليق الظلام.. المجتمع الذي لا يحيد عن عقيدته، ولا تراوغ نفسه أوهام الدنيا بغرورها, ولا التيارات بتقلباتها وألوانها، مهما حَسَّنت له الشياطين أمرها, أو لوَّنت له القرائن رسومها، المجتمع المؤمن بأنَّ الحياة الدنيا هي مصنع لمنجزات الآخرة..وبأن الآخرة حصاد التفاعل فيها مع الله تعالى في الصواب والخطأ، والتجاوز والعودة، واللجوء والأداء, لا يحيد عن ربِّه بشرك أصغر ولا أكبر، ولا تطغى عليه صبوته بقرين ولا بذات..
لكن هذا المجتمع تبدل ورخت حبال قوته ووهن بيته، وتهالكت أعمدته، وغدت الثلة من الآخرين تتجاذبها أمواج المستنقع الداكنة كلما هاجت موجات مدها وجزرها وهي ثابتة بإذن الله...
- الدارسة الشابة في المراحل العليا قدمت سؤالها, فجاءت تترى بعده الأسئلة : كيف لامرأة مسلمة أن تطفو على كل ذلك، وتجد في المجتمع الموسوم بكل ذلك من يقر فساد رأيها وضعف جوفها ووهن حجتها وفراغ صدرها؟...
- لأن المستنقع يكبر يا صغيرتي، وصانعوه يصبون فيه كل لحظة ما يحسبونه زلالا..
