Al Jazirah NewsPaper Sunday  27/12/2009 G Issue 13604
الأحد 10 محرم 1431   العدد  13604
(بطرسبرج).. والسياحة البحرية المفتقدة؟!
د. عبد الله مناع

 

ليست كل الأحلام.. قابلة للتحقيق وقتما نريد؛ فبعضها قد يتحقق ذات يوم، أو ذات شهر أو ذات عام.. وبعضها قد يتأجل، وبعضها قد لا يتحقق أبداً، ولم يكن نصيبي من الأحلام يختلف عن ذلك..

فحتى الصيف الماضي كان من بين أحلامي التي طال تأجيلها لأسباب سياسية.. زيارة هذه المدينة الأسطورية: مدينة (بطرسبرج).. الشهيرة عند أعلى الأوساط الثقافية والمعرفية عالمياً، والتي حملت عند إنشائها اسم قيصر روسيا الأشهر (بطرس الأكبر)، ثم تغير اسمها لأكثر من مرة عبر عقود القرن العشرين.. فقد أسماها (الألمان) بعد الحرب العالمية الأولى: (بيتروجراد)، وعندما مات زعيم الثورة البلشفية (فلاديمير لينين) عام 1924م.. سميت المدينة باسمه (ليننجراد)، وعندما انهار الاتحاد السوفييتي عام 1991م وانطوى اسماً وكياناً.. عادت مجدداً لاسمها القديم: (بطرسبرج).

وقد كان يمكن أن يستمر تأجيل الحلم بزيارتها.. حتى مع زوال أسبابه السياسية بعودة العلاقات السعودية الروسية أو (استئنافها) بعد انقطاعها في أوائل الثلاثينات من القرن الميلادي الماضي - كما قد يحلو لأساتذة التاريخ.. الملتزمين بوقائعه وأحداثه -، و(انطفاء) الخوف من المعسكر الشيوعي.. إذ إن زيارتها كانت تحتاج إلى رحلة مقصودة خاصة.. لأن المدينة ليست من بين مدن وسط أو غرب أوروبا حتى تكون على طريق الذاهب إليهما، أو عابرهما إلى كندا أو الأمريكتين، وهو ما يعني.. بالضرورة توافر إمكانات مادية لا تقوى عليها عادة ميزانيات الكُتَّاب والأدباء والسواد الأعظم من الصحفيين العرب، إلا أن صديقاً عزيزاً.. فاجأني قبل بداية شهور الصيف بـ(اقتراح) قضاء ثمانية أيام على ظهر مركب في مياه بحر (البلطيق)، وزيارة خمس من العواصم والمدن المطلة عليه.. هي (كوبنهاجن الدانمركية، وكييل الألمانية، واستوكهولم السويدية، وتالين الاستوانية، وبطرسبرج الروسية)، وأنه سيتكفل بنفقات هذه الرحلة مشكوراً. ومع سعادتي وتقديري لهذه اللفتة الأخوية الحميمية وغير المستغربة منه.. إلا أنني استمهلته يوماً حتى أفكر في هذه الرحلة البحرية المترفة، التي لم أعرفها ولم أعتدها من قبل.. وإن سمعت بها وبقصصها وسط تحفظاتي وربما استنكاري!! فكرت - بداية - أن أعاود الاتصال به شاكراً له عواطفه التي يغمرني بها دائماً، ومعتذراً بضيق الوقت.. إذ إن إجازتي في الصيف الماضي لم تكن لتزيد عن شهر واحد بالتمام والكمال، ورحم الله أيام عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي كان يجيز نفسه أربعة شهور في كل عام تقريبا: من الأسبوع الأخير من شهر يونيه.. حتى الأسبوع الأول إلى الثاني من شهر أكتوبر.. إلا أنني توقفت عن هذا العزم، وأخذت أعيد النظر في أسماء تلك العواصم والمدن.. التي ستمر بها، وتتوقف عندها هذه الرحلة البحرية.. لأجد أن من بينها مدينة الحلم المؤجل: مدينة (بطرسبرج).. فعاجلت بالاتصال به، مرحباً بفكرة الرحلة البحرية هذه.. حتى ولو طار نصف زمن الإجازة.

من ساحل العاصمة الدانمركية (كوبنهاجن) على بحر (البلطيق).. بدأت الرحلة في تلك الباخرة الفاخرة أو القلعة المدهشة بطولها الذي يزيد عن مائة وثلاثين متراً.. وارتفاعها الذي يبلغ ثلاثة عشر دوراً، ومطاعمها ومقاهيها ومسابحها ومتاجرها وقنواتها الفضائية و(سينماتها) ومسرحها الاستقراطي الرائع الذي يتسع لقرابة ألف مشاهد.. من الألف والسبعمائة سائح الذين كانوا يقيمون بين أدوارها، والذين يخدمهم ألف عامل وعاملة.. من قبطان السفينة وطاقمه إلى أصغر (زبَّال) فيها.

*.

على أية حال.. مع تصفحي لمشاهد مدينة (استوكهولم) الباذخة.. من البحر، لأرى قصورها وبيوتها الساحرة الأخاذة.. كنت أتذكر الكاتبة الفرنسية الراحلة (فرانسواز ساجان).. لأقول: كم كانت (ساجان) على حق.. عندما عنونت روايتها الثالثة بعنوان: (قصر في السويد).. فليست كل القصور تستحق أن تكون عنواناً لرواية..!!

توقفت بنا قلعتنا البحرية المدهشة أو الـ(أوركيسترا).. وقفتها الرابعة عند مدينة (تالين): عاصمة جمهورية (إيستونيا)، التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي ولم تنضم إلى دول (الاتحاد الروسي) فيما بعد، وفضلت الانضمام إلى (الاتحاد الأوروبي).. على أمل أن ينفحها ببركاته أو (دولاراته).. إلا أنها ظلت على ما هي عليه متواضعة، فقيرة في كل شيء.. ولولا جزؤها التراثي القديم الذي تم الحفاظ عليه، والذي بدأ بناؤه في القرن الخامس عشر، وتم استكماله في القرن الذي تلاه.. لما كانت تستحق الزيارة وربما (الاستقلال) أصلاً، الذي حرصت عليه ورعته الولايات المتحدة الأمريكية.. لا حباً في (إيستونيا) ولكن نكالاً في رابطة دول الاتحاد الروسي.. حتى لا تقوم له قائمة إذا قدر له ذات يوم قريب أن يتشافى من (طفولة) جورباتشوف السياسية التي أطاحت بـ(الاتحاد)، و(تهور) يلتسين.. الذي قضى على البقية الباقية منه. لقد كانت الساعات الثلاث التي أمضيناها في (تالين).. كثيرة عليها، لنعود بعدها إلى (الأوركيسترا).. في انتظار يومنا التالي. يوم الذهاب إلى مدينة: (بطرسبرج).. مدينة الحلم المؤجل، التي أغدق مثقفو العالم ورحالته وموسوعاته في توصيفها.. إلا أن أدق توصيف لها، هو ما قرأته في الموسوعة الأمريكية (International Encyclopedia) عندما وصفتها بأنها (مدينة.. خرافية)..! فقد كان ذلك.. هو ما رأيته.

طوال فتـرة المساء.. إلى قرب الفجر كانت الـ(أوركيسترا) تسير بنا الهوينى مجدداً فوق مياه بحر البلطيق المحيرة في هدوئها الدائم، والجميلة حد الفتنة في درجات زرقتها.. لنفتح أعيننا، ونطل عليها في الصباح.. من مرسانا في دلتا نهر (نيفا) الذي تقع المدينة في ثغره. إذن هذه هي مدينة (بطرسبرج) أخيراً.. وهذا نهرها، وهذا بحرها، وهما يخترقانها ويحيطان بها.. بستة وستين طريقاً مائياً وستمائة وعشرين جسراً. إنها تجمع في تشابهها بين مدينتي (أمستردام) الهولندية و(البندقية) الإيطالية، إلا أن البندقية.. تحكي بصغرها وجمالها قصة الفن والفنان الإيطالي وعذوبته، لكن (بطرسبرج).. تحكي قصة مجد قيصري تليد وعظمة متراكمة. فهي عاصمة روسيا القصيرية قديماً، وهي ثاني أكبر مدن الاتحاد السوفييتي سابقاً والاتحاد الروسي حالياً.. حجماً وسكاناً، وهي ميناء التجارة العالمية لهما ماضياً وحاضراً.. فبحرها يظل خالياً من الثلوج لسبعة أشهر في العام، وتلك ميزة لا تخطر على بال أمثالنا من أبناء المشرق، وهي أحد أكبر مراكز التعليم والثقافة والفن في أوروبا.. فجامعتها تستعد للاحتفال بمرور قرنين على إنشائها.. ومعاهد تعليمها العالي الواحدة والأربعون ما تزال تموج بطلابها، وإلى جوارها وبينها مائة وسبع وثمانون منظمة علمية، وهي بعد ذلك مدينة المسارح والأوبرا والباليه والمتاحف والمكتبات التي لا حصر لها.. حيث يتزاحم فيها ثلاثة عشر موقعاً إلى جانب المسرح الذي سُمي على اسم ابنها الفنان.. كاتب القصة القصيرة الأعظم: (الإكسندر بوشكين)، الذي تفاخر به (بطرسبرج).. كما تفاخر بروائيها الأكبر (تيودور ديستوفيسكي) صاحب (الجريمة والعقاب) و(الإخوة كرامازوف)، وبثائرها الأشهر (ليون تروتسكي).

عند الهبوط من (الأوركيسترا).. كان علينا جميعاً أن نقدم جوازات سفرنا - بعد أن أصبحنا خارج منطقة الاتحاد الأوروبي - لإدارة الجوازات الروسية لنحصل على بطاقات سياحية تغطي ساعات زيارتنا السبع أو التسع.. التي قسَّمت مجموعتنا إلى قسمين، فاخترنا بواقعية تجوال الساعات السبع.. لتأخذنا إحدى الحافلات السياحية التي تتحدث مرشدتها الإنجليزية، والتي كانت تتحدث في كل شيء عن ماضي وحاضر (بطرسبرج).. إلا (السياسة)، رغم أن هذه المدينة هي التي صدَّرت للعالم في أكتوبر 1917م رموز (اليسار) وبُناته، الذين انقسم العالم بعدهم إلى معسكرين: يمين.. رأسمالي، ويسار.. اشتراكي. ورغم تزاحم الاقتراحات التي أدلت بها المجموعة - حول خط سير الجولة - وقد كان من بينهم اقتصاديون وصناعيون ووزير سابق.. إلا أنه أمكن الاتفاق بعد رحلة الاستكشاف الأولى لشوارع وميادين وأبرز معالم المدينة التاريخية.. على الوقوف عند تمثال (بطرس الكبير) مؤسس هذه المدينة وباني نهضتها، الذي كان في قلب المدينة وعلى إحدى ضفاف نهر (نيفا) أو على أحد تلك القنوات المائية.. إذ لا يستطيع المرء أن يفرق بينهما، فالنهر.. عريض كالقنوات المائية، والبيوت أو القصور حقاً تصطف عليهما.. وكأن أحداً قد رصَّها وصفها بيديه. ربما كان وصف المدينة بـ(الخرافية).. خرج من هذا المشهد، على أنه يبقى السؤال: كيف استطاعت أن تنجو كل هذه المباني والقصور.. وهي بالعشرات من عاصفة الاجتياح النازي للمدينة وحصارها لأربع سنوات من 1941 - 1944م..؟

لقد كان اتفاقنا الآخر.. على أن نمضي أطول وقت ممكن في أكبر متاحف المدينة وأعظمها وأهمها: (متحف التراث) الضخم.. الذي رأينا فيه التاريخ القيصري والسوفييتي والإنساني ماثلاً أمامنا عبر عشرات اللوحات الفنية.. التي قامت برسمها أيادي فنانين عظام.. أحسب أنه لم يعد لهم نظراء في عصرنا الحاضر، وكان من المثير بالنسبة لي أن يضم المتحف في قسم من أقسامه: رفات.. رموز العهدين القيصري والسوفييتي.

عندما عدنا إلى الحافلة.. كانت مرشدتنا تخبرنا بأن (بطرسبرج) تضم إلى جانب العديد من الكنائس والكاتدرائيات والمعابد مسجداً إسلامياً قديماً، يُرفع فيه الأذان ويؤمه المسلمون لأداء صلواتهم.. فهللنا وكبرنا، وطالبناها بالذهاب إليه والوقوف عنده لمشاهدته وتصويره.. والصلاة فيه. مع انتهاء الساعات السبع.. كنت أحتسي قهوتي وأشعل (غليوني) في ذلك المقهى القيصري الفاخر، قائلاً لنفسي: لا.. إن هذه السويعات لا تكفي لزيارة هذه المدينة؛ فهي سِفر في تاريخ أوروبا.. لا يمكن قراءته في سبع ساعات. إنها تحتاج إلى سبعة أيام.. وربما أكثر!!

في طريــق العــودة إلى نقطة الانطلاق الأولى: (كوبنهاجن)، وكما هي حالي طوال أيام الرحلة.. كنت أسائل نفسي: ما الذي جعلنا نحرم أنفسنا من رحلات سياحية بحرية شتوية على شواطئنا..؟ أجهلنا أم نسينا أن لنا شاطئين.. أحدهما شرقي على مياه الخليج، وآخر غربي وهو الأطول والأجمل على مياه البحر الأحمر.. حتى غيبناهما عن مشاريعنا السياحية قبل وبعد قيام (الهيئة العامة للسياحة)؟.

إن نصف سياحة المدن الساحلية.. تقوم على البحر وجزره وشواطئه وخلجانه وأسماكه وأحيائه المائية الخلابة.. كما هي الحال في تركيا واليونان وقبرص مثلاً، فما الذي جعلنا نجهل أو نتجاهل ذلك أو نسهو عنه..؟

أعلم حقيقة أننا لم نكن نجهل ذلك بداية.. فعندما كنا صغاراً في الإعدادية وحتى الثانوية.. كانت أجمل رحلاتنا المدرسية هي تلك التي نمضيها في جزيرتي (الواسطة) أو (أبو سعد)، وكانت أمتعها على وجه الإطلاق من قبل.. عندما كنا نقوم في أيام عيد الأضحى المبارك بزيارة سفن الحجاج وبواخرهم الضخمة الراسية في عمق البحر.. انتظاراً لأفواج الحجاج الأولى العائدة إلى أوطانها.

كما أعلم نهاية أننا لم ننس.. أو نسهو عن هذا القطاع السياحي الضخم باستثماراته وفرصه الوظيفية الواسعة، ولكن رعب (الهواجس) بمختلف أشكالها ومسمياتها.. الذي دخل علينا، هو الذي جعلنا نبدو.. كما لو أننا نجهل، وهو الذي جعلنا نبدو.. كما لو أننا سهونا أو نسينا..! لقد عطل ذلك (الرعب) كل شيء.. وأوقف كل شيء، بحجج.. أحسب أنها لم تعد قادرة - الآن - على الوقوف على قدميها، ففي ظل التقنيات الحديثة والإمكانات المتوافرة.. لم يعد هناك ما يبرر استمرار هواجس الرعب القديمة هذه.. التي أصبحت كخيال المآتة..؟!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد