Al Jazirah NewsPaper Friday  15/01/2010 G Issue 13623
الجمعة 29 محرم 1431   العدد  13623
 
المبارك وإشكالية مفهوم (الفكر) عند العرب والمسلمين
د. عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ

 

ذهب الدكتور راشد المبارك في مقابلة له في جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر يوم الخميس 23 من ذي الحجة 1430هـ (10 من ديسمبر 2009) العدد 11335 إلى أنه لم يسبق أن نُعت أصحاب الفنون والتخصصات

في أي من التراثين العربي والإسلامي بالمفكرين، فهل ينتفي الفكر عنهم؟ المفكر والمفكرون مصطلح مطروح، وطرحه لفئة يعني احتكاراً له، أو انتفاء لتوفره عند من سواهم. والواقع أن كل إنسان أودع الله فيه العقل والحواس؛ فهو يفكر، وقد ننعت أناساً بأنهم مفكرون وهم لا يفكرون حقاً كما ورد في القرآن الكريم الذي شبه الضالين بالأنعام، بل أضل سبيلاً منها؛ فمن لا يتفكر في مخلوقات الخالق - سبحانه وتعالى - تنتفي عنه صفة التفكر أو التفكير، ومن يتفكر فيها فهو مفكر دونما يطلق عليه ذلك، تماماً كما ورد في الآية الكريمة التي استشهد بها الدكتور المبارك ?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سبحانك فقنا عذاب النار? - الآية 191 من سورة آل عمران. وفي هذه الآية الكريمة جاء ذكر الله أولاً ثم قرن بالتفكر في خلق السماوات والأرض، ثم الإقرار بعلة خلقها مضمناً في نفي خلقها بغير حق ثم الدعاء بالنجاة من النار.

فهل يمكن أن نتخيل، ولو للحظة واحدة، أن من ذكر الله قائماً وقاعداً وتفكر في مخلوقاته لا يفكر؟، لا يمكن، بل إن هذا هو قمة التفكير والتفكر، وكما ورد أليس رأس الحكمة مخافة الله؟، فكيف ينعت حكيم بأنه غير مفكر؟ إذن التفكير موجود وبنسب مختلفة، ووجوده ليس مطلقاً، ولكنه نسبي، وبدرجات متفاوتة. ثم إن الصفات التي أوردها الكاتب مثل (الفقيه والمحدث والطبيب والشاعر)، أليس الفكر والتفكير مضمناً فيها؟، كيف بشخص ينعت بأنه فقيه أو محدث أو طبيب أو شاعر، ولا يفكر؟ الفكر والتفكير عملية عقلية موجودة ويمارسها الإنسان على مدار الساعة، والمفترض أن الإنسان عقلاني بطبيعته وتطبعه، ودونما أن تطلق المفردة على واحد أو مجموعة، فهو مفكر بطبعه.

ثم إن هذا التراث العظيم، كماً ونوعاً، والذي بين أيدينا، ألا يعتبر نتاجاً عقلانياً جاءنا من متخصصين مفكرين؟ كما أن نعت أولئك بالمفكرين يعتبر تحصيل حاصل وعدم نعتهم بذلك لا يكون إشكالية لي من وجهة نظر منهجية.

وقبل ذلك وبعده بمَ يعرف المفكر؟، يا حبذا لو أن المبارك قدم تعريفاً لمفهوم الفكر والتفكير، ومن المهم أن نعرف بماذا يفكر المفكر؛ إذ إن منتجه من العملية الفكرية هو المطلوب، لا مجرد التفكير في حد ذاته.

وتلكم الكتب التي ألفت (كتب الطبقات) التي أوردها الدكتور المبارك في مختلف الفنون، هي كتب لمفكرين، وكل طبقة من الطبقات، بطبيعتها، طبقة مفكرة وهم من المفكرين. ولو قلت إن هذه الطبقات جميعها تعتبر طبقات مفكرين، دون تعريفها أو ربطها بفن من الفنون أو موضوع من الموضوعات، لما عرف ذلك.

أما كونهم مفكرين فلا يحتاج إلى التأكيد عليه بل يستنتج استنتاجاً من أعمالهم؛ إذ لا حاجة إلى تفسير الماء بالماء، ثم هب أني قلت عن إنسان إنه (متحدث)، وقيل لي: لمَ لا تقول إنه ناطق؟ لقلت إن التحدث يغني عن تأكيد (النطق)، وكذلك لو قلت عن فقيه أو محدث إنه مفكر فهذا تحصيل حاصل. ومن قال إن الفكر والتفكير حكر على الفلسفة أو العلم الطبيعي، فهذا من باب تحجير أمر واسع؛ فالفيلسوف مثله مثل الفقيه يفكر في موضوعه وفي فنه الذي يتخصص فيه؛ فكلاهما يفكران؛ ولذا يعتبر كل واحد منهما مفكراً.

والجانب الآخر الذي تطرق إليه الدكتور المبارك ما يختص بصناعة الكلام عند العرب، وبخاصة في التراث الشعري الجاهلي، والإشعاعات العلمية المميزة للعلماء المسلمين برزت في أعمال ابن حيان التوحيدي وأبي حسن البصري وابن النفيس، وغيرهم كثير في علوم وفنون شتى. كل ذلك النتاج العلمي جاء بعد سطوع نور الإسلام وفتح البلدان ودخول الناس في دين الله أفواجاً بعد مجيء نصر الله وفتحه. العرب أمة قبل الإسلام اعتمدت على الشعر؛ فاعتبر الشعر ديوان العرب، ومن خلاله رصدت الأحداث وحددت الأعراف والتقاليد والعادات، التي منها الحسن ومنها غير ذلك؛ فكان للعرب مكارم أخلاق، دل عليها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

وجانب ثالث تناوله المبارك، بل تساءل بخصوصه، وذلك عدم وجود أثر لخطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أيام الجمعة، الذي قدر عددها خلال عشر سنوات بألف خطبة، وقد سأل الشيخ الغزالي عن ذلك، وذكر له أن الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - كان يخطب بسورة (ق) في خطبة الجمعة. وهنا نقول لو أن المبارك، وفقه الله، عمل بحثاً بسيطاً لوجد أن الدكتور جواد علي، في كتابه (تاريخ الصلاة في الإسلام)، ذكر أن أول خطبة جمعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت في مسجد بني سالم، كما رواها الطبري في تاريخه، ولقد أوردت المصادر نصوصاً من خطبته الأولى في المسجد المذكور. ولقد أورد البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وغيرهم، خطباً للرسول - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة: فهناك خطبة في التوبة والمبادرة بالأعمال الصالحة في حديث أخرجه ابن ماجه والبيهقي، وخطبة في التحذير من الفتن، وخطبة في وصف الدارين، ورابعة في الاتباع، أخرجه البيهقي في الدلائل، وخامسة في التحذير من الابتداع، أخرجه ابن ماجه. وخطبة في التحذير من الغفلة، أخرجه أبو نعيم، وخطبة له في فضل رمضان، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه. وهنالك خطب كثيرة في موضوعات أخرى أوردها رواة الحديث في أسانيدهم، وخطبة له في تعليم الناس وتفقيههم والترهيب من ترك ذلك، رواه الطبراني في الكبير عن بكر بن معروف عن علقمة، وخطبة له - صلى الله عليه وسلم - في الحث على الصلوات الخمس وصوم رمضان والزكاة واجتناب الكبائر السبع، رواه الحاكم. بل إن المتواتر من أحاديثه - عليه الصلاة والسلام - التي تلقاها الصحابة ورواة الحديث من خلال خطبه - صلى الله عليه وسلم - في الجُمع، وأحياناً في الجماعات وفي مناسبات متنوعة ومتفرقة هنا وهناك، وفق ما تتطلبه الحاجة وما يناسب المقام، في ظروف عادية وأخرى غير عادية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد