Al Jazirah NewsPaper Tuesday  19/01/2010 G Issue 13627
الثلاثاء 04 صفر 1431   العدد  13627
 
شيء من
التعصب للقول والمذهب
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

 

لم أجد أخطر على الإسلام كدين وكمنهج حياة مثل التعصب للمذهب أو لقول الرجال، ناهيك عن الارتقاء بأقوالهم إلى درجة العصمة. مَن يقرأ تاريخنا الفقهي في فترات الظلمة سيجد كماً هائلاً من المماحكات والخلافات بين فقهاء المذاهب، فيها من الإجحاف والتطرف والتعصب للقول أو المذهب. وفي تقديري أن عدم قراءة مواقف الفقهاء الفقهية بعقلانية وموضوعية وتحقق، أدى إلى مثل هذا التعصب وأوقد جذوته. وعندما يغيب النقد، ويرفض البعض قراءة المواقف الفقهية قراءة موضوعية، أو قل: نقدية، فإن التعصب، ومن ثم التطرف، فالإرهاب، يصبح منتجاً طبيعياً يجب أن نتوقعه.

وسوف أسوق في هذه العجالة أمثلة لهذه المماحكات، أخذتها من فترات مظلمة من تاريخنا؛ وهي في تقديري ما كانت لتكون لو أن ذهنية النقد والتمحيص وقراءة آراء الفقيه وتلمس الأسباب والدواعي كانت محل اعتبار.

جاء في كتاب (تحاسد العلماء) لعبدالله بن حسين الموجان: (يقول صاحب كتاب مراقي الفلاح الحنفي، ص 21، 22 عن ماء البئر النجس الذي وقع فيه حيوان مات وانتفخ: فإن عجن بمائها يلقى للكلاب أو يعلف به المواشي؛ وقال بعضهم: يُباع لشافعي!؛ فقد سوى هذا الفقيه بين الكلاب والشافعية)!

بل وصل التعصب إلى كبار الفقهاء، ممن يعتبرون مراجع عند أهل السنة؛ فقد ألف إمام الحرمين الجويني (توفي 478 هـ) كتاباً سماه (مغيث الخلق في اختيار المذهب الحق) نال فيه من المذهب الحنفي، وسفه معتنقيه؛ ولو أن المجال يتسع لأوردت نماذج لهذا الإسفاف، والتي لا يقولها إلا متعصب أعمى التعصب بصيرته.

ومَن يقرأ تاريخ مؤسسي المذاهب الأربعة يجد أنهم أول مَن حث الناس على التحقق، والبعد عن التعصب، وتحري الصواب ما أمكن، وعدم التعصب لقول أو مذهب. يقول أبو حنيفة النعمان: (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه). ويقول الإمام مالك: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب, فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق كتاب الله فخذوه, وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه). ويقول الإمام الشافعي: (كل ما قلت وكان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يصح؛ فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى, ولا تقلدوني). ويقول الإمام أحمد بن حنبل: (لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا).

وقد اقترن التعصب في تاريخ الإسلام بالخمول الفكري والعلمي، والاتباع الأعمى، ومَن يقرأ اليوم التعصب لأقوال بعض المشايخ واختياراتهم في عالمنا الإسلامي، وكذلك الجدل الذي يدور بين تيارات (الإسلام السياسي)، في الخصومة، وتجريحهم في بعضهم البعض، يجد نسخة معاصرة لتلك الفترة المظلمة من تاريخنا. وفي تقديري أن انتشار الرأي والرأي الآخر، وتجذير فقه الاختلاف، واحترام تعددية الآراء، وخلع عباءة العصمة عن الفقهاء، سيكرس العقلية العلمية الناقدة، التي نحن اليوم في غاية الحاجة إليها، لنخرج الإسلام من قوقعة التطرف والمتطرفين.

إلى اللقاء..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد