إنني هنا لا أمزح ولا أسخر ولا أحاول أن «أتميلح», فهناك مسائل وقضايا هزلهن هزل وجدهن جد ولا تقبل أقل من ذلك ولا يقبل ذو عقل وضمير أن يلقي فيها الرأي أو يقال فيها ما يقال كيفما اتفق. ولكن ما دفعني لهذا النفي الاستباقي هو أن ما يجري أحياناً من غرائب الأحداث قد يتخذ من فرط غرابته شكلاً كاريكاتيرياً
يجعل الحديث الجاد عنه يشبه الهزل. فلا أظنه إلا من باب سخرية الأقدار كما يُقال في الأدب الروائي أو ما يشبه المزاح الثقيل أو تلك الرسومات الكريكاتيرية المضحكة الموجعة أن نعرف أن هناك اليوم من بين الشباب العربي والمواطنين العرب عموماً من لا يعرف أن حصار غزة مع دخولنا العام 2010 من ألفية القرن الميلادي الثالثة قد دخل عامه الرابع. كما أن هناك من يظن أن حصار غزة قد أوقف بتوقف حرب الإبادة التي شنَّها العدو الإسرائيلي عام 2008 - 2009 على أهل غزة من المدنيين العزّل لمدة اثنين وعشرين يوماً متتالية تواصل فيها القصف الجوي بكل أنواع الأسلحة المحرَّمة دولياً ليلاً مع نهار إلى أن سوّيت البيوت والمدارس والمصحات بالتراب على أنقاض أشلاء الجثث، بل إن هناك ليس من العرب وحسب وإنما من المسلمين في مجتمعات مختلفة من يظن أن «مشاريع التسويات» وهي تساوي بين الضحية والجلاَّد قد سوّت الخلاف التاريخي وألغت التناقض المبدئي والجغرافي بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الصهيوني. ومن أمثلة الموقف الأخير - وسأعود للمواقف الأخرى فيما بعد - أنني في العام 2000 وقفت في مدينة بريطانيا بمانشستر بشارع اسمه «روشوم» وهو شارع يشتهر بتجاره المسلمين ممن يبيعون بضائع شرقية لأبتاع تمراً وكنا في شهر رمضان فإذا بي أجد أن تلك البقالة التي وجدت صاحبها قائماً يصلي في جماعة أمامها تبيع «برتقالاً» يحمل علامة «منتج إسرائيلي»، فلما سألته بعد أن فرغ من الصلاة عن ذلك قال لي بالحرف الواحد: فعلاً أنا كنت أقاطع هذه المنتجات في الماضي ولكنهم يقولون الآن إن «التسويات السياسية» قد حلّت الوضع. وقد تكرّر بعدها الموقف في (بيع أطعمة كانت على قائمة المقاطعة إبان كانت القضية الفلسطينية قضية عربية إسلامية) مع صاحب مطعم كان في عقر دار بريطانيا يرفض أن يقدّم لزبائنه خمراً مع الطعام، بل إنني شهدته بأم عيني يخرج «مجموعة كبيرة» من زبائن كانوا يحتلون طاولة من اثني عشر كرسياً بعد أن أعد لهم الطعام الذي طلبوه، وقد رفض تقديمه لهم وأعفاهم من دفع قيمته عندما لاحظ أنهم قد أحضروا معهم «قارورة نبيذ» لتناولها على مائدتهم. إذن لم تكن تصدر تلك المواقف عن أناس لا مبدأ لهم ولكنها كانت تصدر بسبب اعتقادهم أنهم في المسائل السياسية جزء من تيار عام فإذا كان هناك تراض من الأطراف المعنية بحسب رواية سياق الأخبار العام السائد (Main stream media and news) فما شأنهم ليزايدوا على تلك الأطراف ولم إذن يتجشمون عناء «المقاطعة التجارية» إذا كان حبل الود السياسي موصلاً بين «الأعداء» حسب المناخ الإخباري العام.
ومع أنني لا التمس في المثال السابق إعذاراً لتلك الشريحة من الشباب والمواطنين العرب (وإن بفرض أنها مجرد شريحة صغيرة) على توقفهم المعرفي عند حد «حدة الأخبار» حين كانت تعرض لهمجية العدوان الدموي على أهل غزة قبل عام ونسيان فداحة الوضع بعد ذلك, إلا أن ما أريد قوله في هذا السياق أن فيض المعلومات أو شحها وحده في مثل هذه الحالة على إلحاحها المصيري لا تصنع المواقف المبدئية ولا تصيغ المبادئ أو تحدد المواقف، إذ فقدت بوصلة أو حاسة تمييز الأساسيات الإنسانية. وللمقاربة فقد كانت أجيال من الشباب العربي أيام حرب تحرير الجزائر وإبان مد المقاومة الفلسطينية تتوسل المعلومة توسلاً من خرم الصحف والإذاعات والتلفزيونات محدودة القنوات إن وجدت ومع ذلك فقد كانت تلك المعلومات على شح منافذها قادرة على أن تجعل شباب تلك الأجيال على اطلاع ومعرفة بما يجري على أرضه من المحيط إلى الخليج بما كان يجعله قادراً على اتخاذ مواقف مفعمة بالحماس والالتزام تجاهها. لا أظن أن ذلك كان يحدث لأن جينات شباب تلك الأجيال كانت تساعدهم على أن تكون لديهم مواقف وطنية ومبدئية أكثر من جينات شباب اليوم. فأنا لست على الإطلاق من أنصار تلك المقارنات غير الموضوعية خاصة في مسألة التفاضل من بين الأجيال، بل إن غالبية شباب اليوم لهم آراء ومبادئ قد تكون متقدمة على سنهم الصغيرة بحكم الثورة المعرفية، ولكن السؤال هو سؤال الأساسيات والأوليات الضائعة مما ينجم عنه ضعف المواقف. فقد نجم مع الأسف عبر تراكم مراحل ما سُمي بالتسويات ما يشبه «تحييد الشباب العربي» عن المجرى العام للشأن الوطني فيما يخص القضايا الكبرى مثل فلسطين أو العراق والمخاطر الأخرى التي لا تقل تهديداً للوضع العربي. وهذا التحييد لا يُستهان به فقد يكون سبباً لما نراه اليوم من ميل شريحة من الشباب والمواطنين العرب إلى عدم الاكتراث بما يجري اليوم على أرض الواقع من أحداث جسيمة وكأنه يجري على كوكب آخر أو يعني شعوباً سواهم وذلك على رغم توفر فيض المعلومات بنوافذها التقنية الواسعة والسريعة، إذ إن المعلومات على كثرتها وعلى تعدد وتنوّع مصادرها قد لا تعني الشيء الكثير لهم عند تلقيها إما لإحساسهم أن متابعتهم لها لن تقدم ولا تؤخر في سير الأحداث التي تتحدث عنها حتى وإن مست أساسيات إنسانية مثل خطورة حصار غزة أو لأن هذه الأحداث لا ترتبط في أذهانهم بأي أهداف إستراتيجية لسياق نضالي أو تحرري وبالتالي فإنها لا تخرج عن كونها أخباراً يسمعونها مثلها مثل غيرها، بل إنهم قد يتجنبون المتابعة الدقيقة لها؛ لأن ذلك لا يزيدهم إلا غماً ولا يؤدي سوى إلى تعميق شعورهم بالعجز تجاه ما يجري بين ظهرانيهم ولا يملكون له رداً ولو بمظهر من مظاهر الاحتجاج عليه. وهذا على عكس تلك الأجيال التي كانت يتوفر للمعلومات القليلة المتاحة لهم عن القضايا العربية مناخاً وطنياً مؤازراً يجعل مواقفهم المهتمة تجاهها امتداداً لمدة عام.
لقد خفتت القضايا الكبرى بما فيها قضية مفصلية مثل القضية الفلسطينية في المدارس والجامعات وجميع وسائل الإعلام كقضايا ضميرية وأخلاقية مصيرية وصارت لا تقدم إلا على شكل معلومات عامة مقطوعة عن أي سياق مبدئي ومفرّغة من أي أهداف سامية وإن كان لذلك ملابسات سياسية معقدة فإنه في المحصلة النهائية قد نجح في إنتاج حالة لا مبالاة تكاد تكون عامة في العالم العربي ولا تقتصر على شريحة من الشباب فقط. هذا ما كنت قد لمسته في الموضوع القريب الذي نعيشه اليوم هنا في التوتر الحدودي مع مجموعة الخارجين في اليمن، (إذ رغم القتال الدائر لأسابيع طويلة فإن الأكثرية لا تتابع ما يجري إلا كمعلومات إخبارية متناثرة ليس إلا). وهذا ما راعني بالنسبة لمتابعة حصار غزة.
أما المثقفون العرب فإن عدداً منهم التزم موقفاً مبتعداً إزاء حصار غزة ربما لأسباب قد تتعلّق بالموقف السياسي الداخلي المعقد للوضع الفلسطسني الراهن. إلا أنه مهما كانت الأسباب فإن ذلك ليس مبرراً لتجنب الحديث في قضية ضميرية مثل حصار غزة الهمجي لأربع سنوات. واللافت أنه بقدر ما وجدت عدداً كبيراً من الكتابات التحليلية لحصار غزة أثناء حرب الإبادة المشار إليها بقدر ما وجدت إما كتابات متلعثمة أو كتّاباً عرباً كباراً لاذوا بالصمت في موضوع استمرار واستشراء أدوات الحصار.
إلا أنني لا أستطيع أن آخذ مثل هذا التحليل أو القراءة كمسلّمة وأعفي نفسي من التساؤل.
ففي حين يظن البعض منا مسلمين وعرباً أن حصار غزة قد توقف مع استمراره عدة أعوام وفي حين أن البعض وإن تابع تفاصيل الحصار بقلب محروق فإنه مثلنا جميعاً لا يجد أن بيده ما يفعله إلا تغيير شريط الأخبار أو تصفح مواقع أخرى نهرب إليها من شللنا أمام فداحة الحصار فإن تجمعات إنسانية على أكثر من مستوى تحاول أن تخترق الحصار ولو بكلمة احتجاج. فلماذا يصنع غيرنا شيئاً ونحن لا نكتفي بالمشاهدة، بل نحاول أن ننشغل عن المشهد إما حياءً أو قلة حيلة.
وسأختم ببعض المعلومات سواء عن سواءات الحصار أو بعض التحركات العالمية المدنية المحتجة على استمراره ومحاولاتها الوقوف في وجه وحشية الحصار. وربما تحسون منها كما أحسست بأن الصمت تجاه ما يجري على امتداد العالم العربي وإن ارتكبه الشباب أو الكتّاب أو سواهم لا يعني إلا شيئاً واحداً وهو بأن غزة ليست وحدها في الحصار. وقد بات من أساسيات المبادئ الإنسانية البديهية أن نمزّق صحيفة الحصار.
تعيش غزة عقاباً جماعياً وإبادة وحشية لا ماء ولا غذاء، ولا كهرباء، ولا دواء وحصار ظالم يسَجن مليوناً ونصف المليون داخل غزة بما يحكم على المدنيين بالقتل التدريجي البطيء.
- 07% من أهالي قطاع غزة هم لاجئون يعيشون في تسعة مخيمات.
- 07% يعيشون تحت خط الفقر (2 دولار يومياً).
- 57% إلى 58% من سكان غزة يعتمدون على مؤسسات المساعدات الإنسانية.
- 69% من المصانع تم إغلاقها.
- 67 ألف عامل في الصناعة فقدوا أعمالهم.
- 03 % من المتاجر أغلقت أبوابها.
- 56 % من المتاجر خفضت أعمالها.
- 001% من مصانع النسيج أغلقت أبوابها.
- 600 ألف عامل ينضمون إلى العاطلين عن العمل.
- تظاهر عشرات المتضامنين الأجانب الذين وصلوا إلى غزة ليل الأربعاء الماضي في إطار المسيرة الدولية «الحرية لغزة» قرب حاجز بيت حانون (إيريز) شمال قطاع غزة، إلى جانب مئات الفلسطينيين احتجاجاً على استمرار الحصار الإسرائيلي للقطاع. وجرى تناقل صورة التضامن الدولي لخرق الحصار ورفع المتضامنون الأجانب لافتات كتب عليها «أوقفوا الحصار عن غزة» «الحرية لغزة».