Al Jazirah NewsPaper Sunday  24/01/2010 G Issue 13632
الأحد 09 صفر 1431   العدد  13632
 
مؤتمر لندن.. وأجندته «الخفية»!
د. عبد الله مناع

 

سيظل الرأي العام العربي - بفئاته المختلفة: من رجل الشارع المشغول والمهموم بلقمة عيشه، والمتواضع بالمقابل في اهتماماته السياسية.. إلى المحللين والمعلقين وخبراء السياسة - في حيرة من أمره في فهم الدوافع الحقيقية ل «مؤتمر لندن»...

... الذي دعا إلى انعقاده وعلى وجه السرعة (28 من الشهر الحالي) رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون ل «دعم جهود اليمن التنموية، وتعزيز قدراته في مكافحة الإرهاب».. كما قال في تبرير الدعوة له!! إذ يخشى «براون» - فيما يبدو - على اليمن «من أن يتحول إلى ملاذ آمن للإرهاب، وتربة خصبة للإرهابيين» فيشكل بذلك «خطراً على الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي».. لأن «نشطاء القاعدة يدبرون للقتل والتدمير من اليمن ودول أخرى معروفة بأنها ملاذ للإرهاب الدولي مثل باكستان وأفغانستان».. واختتم تصريحاته قائلا «بأنهم أصبحوا يخفون المتفجرات بطرق أكثر استعصاء على الكشف»..!!

فإذا كان الدافع الأول لعقد هذا «المؤتمر» كما ذكر.. هو «دعم جهود التنمية اليمنية»، فإنه يتوجب توجيه الشكر له ولحكومته على هذه «الأريحية»!! حتى وإن تخابث أحدهم بسؤال رئيس الوزراء براون: أين كنت..؟ وأين كانت حكومة بريطانيا العمالية طوال عهديها (بلير/ فبراون) من التنمية اليمنية.. أي منذ منتصف التسعينيات الماضية وإلى يومنا هذا..؟

أما إذا كان الدافع لعقد هذا المؤتمر، وكما ذكر، هو خشية بريطانيا من أن يتحول «اليمن» إلى ملاذ آمن للإرهاب، فيصبح «خطراً على الأمن والسلام الدوليين»!! فإن المكلف أممياً - وبموجب ميثاق الجمعية العامة للأمم المتحدة - بالحفاظ على الأمن والسلام الدوليين هو «مجلس الأمن».. وليست بريطانيا وحدها، فكان يتوجب على حكومة براون أن تتوجه إليه- وهي من هي فيه.. قوة ومكانة وتأثيراً - بطلب الدعوة لعقد جلسة استثنائية عاجلة سواء لبحث الكيفيات والآليات لاجتثاث «القاعدة»، أو لمكافحة الإرهاب كونياً، أو حتى لمساعدة «اليمن» كي تنجو أرضه من أن تكون ملاذاً آمناً للإرهاب وللإرهابيين وتشكل خطراً على الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي..!

فإذا كان الأمران ليسا بأكثر من تبريرين منطقيين مقبولين.. يقدمهما «براون» للرأي العام، وأنهما ليسا في وارد دوافعه الحقيقية.. لعقد هذا المؤتمر، وأن الوارد في اهتمامه ودوافعه.. هو استئصال أولئك الذين قال عنهم ب «أنهم أصبحوا يخفون المتفجرات بطرق أكثر استعصاء على الكشف».. وهو ما يعني بذلك حتماً قصة الشاب النيجيري (عمر الفاروق عبدالمطلب)، ومحاولته الفاشلة في تفجير الطائرة الأمريكية القادمة من «أمستردام» والمتجهة إلى «ديترويت»، والتي انتهت بإلقاء القبض عليه في الطائرة، وتسليمه بعد هبوطها ب «سلام» إلى سلطات الأمن في مطار «ديترويت».. فإن الأمر سيبدو عندئذ «كاريكاتورياً» وعلى نحو مفرط (!!)، وأن التوفيق قد خان «براون».. سليل مدرسة الدهاء والمكر البريطانيتين في السياسة.. وإلى أبعد حد؟!

فما دخل «بريطانيا».. في قصة هذا الشاب النيجيري الإرهابي، والتي لم تمر في أي من محطاتها بأراضي الجزر البريطانية..؟ فهي بدأت - وكما جاء في الأخبار - من «نيجيريا»، مروراً ب «غانا»، فاختراقاً وانطلاقاً من «هولندا» وعلى طائرة أمريكية، فوصولاً إلى «ديترويت».. ب «الولايات المتحدة الأمريكية»، وهو ما يعطي «واشنطن»، وليس «لندن» الحق في الدعوة لعقد مؤتمر كهذا.. إن رغبت، خاصة وأنها تخوض حرباً معلنة صريحة مدججة ضد ما تسميه ب «الإرهاب الدولي» حيثما كان (باستثناء الإرهاب الإسرائيلي ضد الفلسطينيين).. منذ ضربة برجي التجارة العالمي الجوية بنيويورك في الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001م، وإلى يومنا هذا.

ولكن.. لابد وأن تتسع صدورنا، فنتناول أمر هذه الدعوة البريطانية المثيرة.. بتلك «العقلانية» التي يطالبنا بها بعض المتحذلقين، فبالبحث في الماضي القريب لهذا الشاب النيجيري.. وفيما إذا كان في جذوره عروق تنتمي إلى تنظيم «القاعدة» أو غيره من التنظيمات الإرهابية التي انتشرت في العالم ربما بعدد الألوية العسكرية الأمريكية المنتشرة فيه لمقاتلته (!!).. اتضح أنه ذهب إلى «اليمن» في شهر أغسطس الماضي لدراسة اللغة العربية في أحد معاهده، وأنه بدلاً من أن يغادره في سبتمبر.. غادره في السابع من ديسمبر، وأنه ظل مختبئاً عن الأنظار وعن معهده لأكثر من شهرين.. ثم غادر في «ديسمبر» عائداً إلى وطنه (نيجيريا)، ومن هناك بدأ سيناريو محاولته الإرهابية الفاشلة التي انتهت بالقبض عليه وتسليمه لسلطات الأمن الأمريكية، والتي لولاها لما اكتشفت قصة زيارته إلى «اليمن»، ولما استيقظت «شهية» بريطانيا السياسية التي عبرت عنها هذه الدعوة المثيرة والمريبة ل «مؤتمر لندن» لبحث «التنمية» في اليمن، ولمساعدته على اجتثاث تنظيم «القاعدة» في جنوب وشرق الجزيرة العربية!!

ف «الدعوة» لهذا المؤتمر.. حتى وإن فاجأت الرأي العام عربياً أو إسلامياً أو دولياً.. فإنها كانت فرصة ذهبية ل «أحلام» بريطانيا النائمة لأكثر من أربعين عاماً، ب»العودة» إلى اليمن وإلى «عدن» و»خليجها» و»باب مندبها» على وجه الخصوص.. بعد أن فتح أبوابها «فاروق عمر» ومحاولته الفاشلة، كما أنها فرصة لتأكيد التناغم السياسي.. بين ضفتي الأطلسي (واشنطن ولندن) بعد تغير قيادات البيتين: أوباما في «الأبيض»، وبراون في «عشرة داوننج استريت».. ب «تبادل» الأدوار، وكما كان الشأن بينهما في «تبادل المصالح».. منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية وما تلاهما وإلى يومنا هذا، فما كانت تريده «واشنطن».. وتبتعد عن الجهر به، تستطيعه «لندن» ولا تخشى منه.. فكانت دعوة «اليمن» وغيرها من دول جوارها العربي إلى مؤتمر لبحث «التنمية» في اليمن و»مساعدته» في التصدي ل «القاعدة» وخلاياها. فأي «إنسانية» كهذه.. يمكن أن يرفضها أحد؟!

لكن الذاكرة العربية.. لم تحتفظ لهذه المؤتمرات اللندنية الخاصة بالشؤون العربية، والتي اعتادت بريطانيا على الدعوة لها، بحكم هيمنتها على العالم العربي وحتى نهايات ستينيات القرن الماضي.. بأي إنجاز إيجابي لها في حياتها، يسوغها أو يسوقها بلغة العصر.. حتى تستحق معه استعادتها واستعادة أيامها البيضاء، فقد انتهى «مؤتمر لندن» الأول لبحث القضية الفلسطينية في فبراير من عام 1939م.. بصدمة «الكتاب البريطاني الأبيض» الشهير في مايو من نفس العام، أما «مؤتمر لندن» الثاني لنفس القضية في سبتمبر من عام 1946م - والذي جرى عقده رداً على مؤتمر بلودان الثاني في يونيه من عام 1946م - فقد انتهى.. بكارثة التقسيم في 48م، وتسليم أجود الشواطئ الفلسطينية في عكا ويافا وحيفا.. إلى الدولة المغتصبة (إسرائيل) مع مقعد لها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، و»علم» يرفرف باسمها على مبناها.. باعتبارها دولة محبة للسلام (!!)، كما انتهى «مؤتمر لندن» لهيئة المنتفعين بقناة السويس في صيف 1956م.. بكارثة العدوان الثلاثي (البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي) على مصر في أكتوبر من نفس العام، إلا أن مصر لم تحضره، ولم تستسلم لشروط بعثته التي ترأسها وقدم بها إلى القاهرة رئيس وزراء أستراليا.. ثم عاد وهو يجرجر أزيال الخيبة، لتقاوم مصر العدوان في أعقابه.. وتنتصر في النهاية بانسحاب آخر جندي إسرائيلي متلكئ من أراضيها في شهر مارس من العام الذي يليه، ثم اكتمل انتصارها بسقوط نجم نجوم السياسة البريطانية آنذاك «أنتوني إيدن».. واعتزاله، فرحيله إلى جزيرة «جاميكا»!!

لقد تركت مؤتمرات لندن السابقة التي كانت تجرؤ بريطانيا على عقدها في سنوات عزها وصولجانها، ودون تكليف أو طلب من أحد للبحث في القضايا والشؤون العربية.. سمعة لم تنس ذاكرة الأجيال سوءها وسوادها، ولا أحسب أن «مؤتمر لندن» القادم - إن عُقد - سيكون بأفضل حالا منها.. رغم تغير الأزمنة وتبدل الأمكنة، واختلال العالم بعد سقوط «الماركسية»، وظهور أنياب وأظافر «الرأسمالية» المتوحشة..!!

وإذا كان «اليمن»، وهو يعيش صعوبات مرحلية لا حد لها.. قد وازن بين: «قبوله» الدعوة لحضور المؤتمر.. أو الاعتذار عنها أو حتى رفضها والسخرية منها جهاراً نهاراً، فاختار قبولها عن رفضها أو الاعتذار عنها، فإننا نذكره حباً له، وخوفاً عليه.. مع علمنا بوجود عشرات العشرات من أفذاذ الرجال علماً، ودراية، وخبرة، ومقدرة على فهم ألاعيب السياسة ومنزلقاتها بين طبقاته.. داخل الحكم وخارجه، ممن لا يحتاجون هذا التذكير.. بأن للمؤتمر أجندتان: «ظاهرة».. ناعمة حريرية لا يرفضها عاقل وحصيف، يدور الحديث حولها وعنها في القاعات المفتوحة.. وربما أمام ميكرفونات ال «B.B.C» وكميرات القناة البريطانية الأولى.. مع ما يستتبع ذلك من الأنخاب احتفاء بتقارب وجهات نظر الأطراف أو اتفاقها، وأخرى «غامضة».. لا يجري الحديث عنها في العلن، ولكن وراء الأبواب المغلقة، وخلف الستائر المسدلة.. إلا أن رائحة العودة البريطانية فيها إلى شرق السويس (عدن والجنوب اليمني خصوصاً) سوف لا تكون خافية على من لا يعاني زكاماً أو أنفلونزا سياسية، كما أن الحلم الأمريكي الدفين بالاقتراب من جنوب الجزيرة وشرقها لمواجهة الخصم الإيراني اللدود.. سوف لا يكون خافياً على من يملكون أبصاراً حتى ولو لم يكن على مستوى إبصار زرقاء اليمامة..؟!

إن «عودة» بريطانيا إلى شرق السويس، وإلى جنوب الجزيرة العربية تحديداً بعد اثنين وأربعين عاماً من مغادرتها.. يذكرني بما قاله السيد هارولد ماكميلان - رئيس الوزراء البريطاني المحافظ الأسبق الذي خلف «إيدن» - عندما تم اختياره وقد ناف على التسعينيات من العمر لعضوية مجلس اللوردات.. وهو يشبه نفسه - في الخطاب الذي ألقاه.. آنذاك - ب «شخصيات حكايا الجنيات التي تنام لمدة مئة عام ثم تستيقظ للحياة من جديد»..!

فهل نامت «الجنيات» في هذه الدعوة.. اثنين وأربعين عاماً ثم هاهي تستيقظ للحياة من جديد؟!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد