Al Jazirah NewsPaper Tuesday  09/02/2010 G Issue 13648
الثلاثاء 25 صفر 1431   العدد  13648
 
القريات-عمّان .... ذاكرة الزمن الجميل
سليم صالح الحريص

 

دائما هي مناطق الأطراف... تظل ذات طبيعة مختلفة.. تركيبة سكانية مختلطة انصهرت في ظل ظروف ومعطيات اجتماعية او اقتصادية فتجانست وانسجمت وتخلّّق من هذا الرحم مجتمع التجانس في صورة متناهية البساطة... والنقاء

القريات- عمان... ذاكرة الزمن الجميل... لوحة جميلة... زاهية الألوان تجسد بالفعل الأثر الايجابي من التقارب الحدودي والتأثير الحسن في ارتقاء الفهم إلى حد ما... وبلورة وعي شكل لبنة في نهوض مجتمعي خلاق.. متأثرا بما رأى وشاهد وعايش. فحاول أن يحاكيه بفعله وقوله وإسهاماته

في ذاكرة المجتمع القرياتي صور عديدة... ملامح لحياة تأثروا بها وأثرتهم واثّرت بهم وفتحت آفاقهم ومداركهم. وما حدث في القريات لربما قد حدث في مناطق أخرى تتقاسم معها خاصية الموقع الجغرافي الحدودي... وإن اختلف الموقع ومدى الفائدة المجنية.

في مجتمعنا القرياتي والتي ربما انفردنا بها عن غيرنا في منطقتنا الجغرافية هي ان ذلك المجتمع في الثمانينيات الهجرية وفي خليطه من كبار في السن والرجولة والشباب والطفولة الذين مازالوا بين ظهرانينا اليوم. يملكون ذاكرة نقية في أبعادها المختلفة... يحملون في سجلهم المعرفي والمعلوماتي الشيء الكثير.. ويدركون حقيقة حجم الفائدة التي نالها مجتمعهم والأثر الثري الذي جنوه من تلك الفترة الزمنية والتي اتسمت ببساطة وسهولة الوصول إلى مناطق التأثير كالاردن او فلسطين او سوريا.

الذاكرة زآخرة بصور عديدة... وتزدحم في المخيلة صور من مدن كانت في نظرهم تتمتع بميزات وتتفرد بما هو يعتبر في نظرهم آنذاك حضارة وتقدما وازدهارا لايقارن مع واقع هم يعيشونه.

في تلك الأيام كانت الامور سهلة ميسرة.. نعم كانت سبل المواصلات غير متيسرة مثل اليوم لكن ماعداها أكثر يسرا وأكثربساطة مما نعيشه اليوم....

عمان العاصمة الاردنية... قبل مايزيد على ثلث قرن او أكثر كانت تشكل لأبناء القريات وهي الاقرب جغرافية والاكثر اتصالا.. نقطة إبهار بما توافر لها من المقومات المدنية، وماكان موجودا فيها ذلك الزمن.. يجعل منها ايضا مغنما لمن يزور القريات من مسؤولين حكوميين جاؤوا في مهمات مختلفة إلى بلدتنا... فما أن ينهوا مهمتهم شدوا الرحال إلى عمان لعدة أيام.للتنزه او لقضاء حاجة... كان أبناء القريات محسودين على هذا التقارب الجغرافي الذي افاد. والاستفادة التي كانت تُجنى من هذا القرب لأبناء هذه البلدة التي كانت تعيش شبه عزلة عن داخل المملكة لبعد المسافات.سواء على المستوى التمويني او العلاجي والمستلزمات المدرسية من قرطاسية ومافي حكمها. وحتى جسر الثقافة والفكر.

عمان في ذاكرتنا كانت رافدا رئيسا ومساهما فاعلا في تأسيس أول جمعية تعاونية متعددة الاغراض في المملكة بحكم اسبقية الخبرة والتجربة. والتي افادت في سرعة إنشاء الجمعية وإسهامها الفاعل في ذلك الزمن. وعمان كانت موفرا لكل الامور التموينية من دقيق وخضار وفواكه وملبس وامور كمالية أخرى.

وهي كانت رافدا ثقافيا أسهم في الوعي من خلال إذاعتها منذ بدء انطلاقتها في الخمسينيات الميلادية واصوات مذيعيها والذين كان لهم حضورهم منهم ابراهيم الذهبي ومحمد أمين وعمر الخطيب ورافع شاهين رحمهم الله ومازن القبج رحمه الله في برنامجه الصباحي (ارضنا الطيبة) وسليمان المشيني في مضافة ابومحمود وسوسن تفاحة وكوثر النشاشيبي وعائشة التيجاني وغيرهم وغيرهم. ولا أنسى انطلاقة التلفزيون الاردني الذي انطلق بثه اوآخر الستينيات الميلادية كان يشاهد بالقريات بوضوح مع استخدام المكثفات وأثرى وعينا من خلال برامجه المتعددة والمشارب المختلفة. وهي ايضا منهلا للفكر فقد شكلت مكتباتها ينابيع لمن يبحث عن كتاب او مؤلف، وهي ايضا فيها السياحة العلاجية لمن ينشد التطبيب والعلاج سواء من خلال مستشفياتها المتقدمة في ذلك الوقت او أطبائها المهرة. او التطبيب الطبيعي بزيارة حمامات مياه ماعين المعدنية والتي لايطيب وقتها الا وقت حصاد الشعير. فترى أبناء القريات ينصبون خيامهم وسط الوادي اسرا ومجموعات.

هذه عمان..المدينة المعلقة بين السماء والارض جبال تطل على سقف السيل ومبان تصعد على هامات هذه الجبال.. هاجسنا الركوب في تاكسي اجرة والمسافة عبر الطريق الصحراوي المستقيم لاتتجاوز الـ(120كم). لانحتاج لجواز سفر انما وثيقة من الامارة تسمى (تصريح) وقد يحمل هذا التصريح اسم اكثر من شخص وهذه الوثيقة فقط حصرا لابناء القريات في ذلك الزمن البهي.

فنادق وسط المدينة وبأجرتها البسيطة والقليلة... وهي التي تطل بشرفاتها على شارع الملك طلال. قلب عمان وعلى جانبه ترتفع مآذن الجامع الحسيني الكبير وخطوات المصلين وهم يتجهون لأداء الفروض. وحركة السير فيها والتي كانت اكثر انضباطا وحزما اكثر منها اليوم... منظر جندي السير (هزاع) وموقعه المعروف عند نقطة المهاجرين وطلعة المصدار والذي كان اشهر من نار على علم لدقته وسرعة حركته والتي لاتشبهها حركة الرجل الآلي.

على جنبات شوارع وسط المدينة... عدد من المكتبات الزاخرة بالكتب... وعلى أرصفتها الصحف والمجلات. فتجد صحف الدستور والاخبار والرأي وغيرها من صحف محتجبة. ومجلات الحوادث و.و.و وغيرها.

في مثل سننا ذلك الوقت كنا مبهورين بدور السينما... رغدان وبسمان و دور أخرى وما تعرضه من أفلام... هاجسنا المعرفة والاطلاع... وأن ننقل ما نشاهد إلى زملائنا وكأننا ننقل لهم اشياء خرافية. وبين أزقتها... حين تطل ذوائب شمسها لا ترى الا عربات تبيع الخبز الساخن وصوت البائع يردد (خبز.... خبز) او ينطلق صوت (فيروز) مصافحا الأذان التي ترهف السمع لهمهمات صوتها وشدو يحلق بك إلى عالم من الانتشاء. رائحة الفلافل تعانق الانوف ونكهة الحمص والمسبّحة ورائحة الكعك والقرشلّه. صور لاتبرح ذاكرة اقراني ممن شهدوا وعاصروا تلك الحقبة.

دائما هي مناطق الأطراف تتشكل من نسيج هذا التعدد... تتمازج فيها عجائن لتخرج انموذجا مجتمعيا مختلفا في فهمه وفكره وادراكه. وحتى ثقافته. فهل مجتمع بلدتي اليوم كما كان في زمنه الجميل؟؟؟ لا أعتقد... وأجزم بأنه تغير كثيرا كثيرا... تخلىّ عن أشياء كثيرة كان يملك ناصيتها ولم يعد اليوم يملكها ولم يتملك غيرها. وعمان نفسها ليست عمان الأمس... تغيرت المعالم وتبدلت الصور وتركت ماميزها بالأمس لتبحث عن وجه في زحمة الوجوه والقامات.... لم تعد دور السينما مزارا كما كانت ولامكتباتها ولارائحة الخبز المطحون دقيقة في مطاحن (ملحس) ولم تعد رائحة البهارات تميز سوق السكر ولا انتيكات سوق البخارية تجد مبتاعيها كما كان.... غابت الكثير من الصور... لكن الذاكرة تحمل الكثير من ملامح الزمن الجميل.

مدينة الضوء.. ليست محجا... ولا نقطة عبور... إنها مقصد. لا للسياحة لأننا لا نعرف معنى للسياحة الا ما يحكى لنا عن فلان إنه (سايح) أي (لا شغلة ولا مشغلة). إنها مقصد لذوي الحاجة والمصلحة.

في تلك الحقبة وما قبلها كان المجتمع قلة... يجمعون ما بين البداوة الصرفة في صورتها ومضمونها والتحضر البدائي بما يشكله من خطوة اولى نحو التحضر الريفي منقولا من حواضر الاردن وريفها... في اللهجة المحكية والمأكولات او اللباس فقد كنا وحدة واحدة بحكم التأثر والتأثير الجغرافي والمجتمعي. اليوم تغير الكثير... وتعددت الأغراض واختلفت الظروف.... تيسر الكثير ولكنه في المقابل تعقد الكثير وتبلور ما لم يكن في الحسبان وغاب ما كان في نظرنا ما يعتبر من الثوابت في حياتنا الاجتماعية... لا أعرف إن كنت مخطئا أو مصيبا. ربما قد أجد من يشاركني في هذا الرأي ربما من يعارضني.... لكن ما أود قوله ان القريات استفادت الكثير والكثير في ظل واقع معاش في ذلك الزمن الذي اسميه نقيا والذي لبس إزار الصدق والوفاء والألفة.

إنه زمن جميل.. ببساطته.. بصفائه.. بعفويته..بتلقائيته. فعلا.. انها القريات وعمان... صور من ذاكرة الزمن الجميل...



al-jazirah-qurayyat@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد