Al Jazirah NewsPaper Tuesday  09/02/2010 G Issue 13648
الثلاثاء 25 صفر 1431   العدد  13648
 
هذا منكم سجية فيكم قد عهدناها
إبراهيم بن موسى الطاسان

 

لم أفرح يوماً بقدر ما تألمت إلا حينما فرحت بحجم الألم والحزن؛ فقد كانت فرحتي أكبر من ألمي.. وقد أمضيت ما يزيد عن ثلاثة عشر عاماً خارج الحدود في خدمة وطني. تعرضت خلالها للكثير من المواقف المؤلمة والمخاطر، حتى أن الرصاص الذي وقاني الرحمن الرحيم منه اخترق ملابسي مارا بين الركب. وكنت أشعر بالسعادة رغم المعاناة النفسية لما تعرضت له؛ لأنني كنت في خدمة بلادي الغالية. وحينما أيقظني هاتف بعد منتصف الليل ليبلغني باستشهاد من هو بمثابة ابني -والد شقيقي محمد- الرائد إبراهيم محمد الطاسان أصابتني الأحزان والآلام النفسية المركبة بظلمات بعضها فوق بعض -تفوق طاقتي- حزن فقد الفقيد، وألم الفراق، وحزن يذكيه كلمة بابا سأسمعها كل حين من فيصل ومحمد وشقيقتهم أبناء الفقيد. ومعاناة نفسية فاقت كل طاقة كنت أختزنها لمواجهة المواقف الصعبة حينما دارت علي دائرة لمواجهة شقيقي المحب والمحبوب بما يكره، لأنقل له خبر فقد فلذة كبده وباكورة ذريته. فاخترت بعون من الله المسجد مكانا لنقل الخبر لعله أحرى للسكينة والاطمئنان، صليت كالعادة وإياه وبقية أشقائنا، وبعد أداء فريضة صلاة الفجر، وعلى غير العادة اتجهت إليه وهو الأصغر مني، وبحضور أشقائي الذين بعضهم غادر المسجد على عجل -لعدم تحمله الموقف-؛ لأمسك بيمين أخي وأردد عليه تحية الصباح (صباح الخير ياخوي) نهض واقفاً احتراما لأخيه الأكبر، وهو مرتاب في أمري، ولكوني الأكبر، ومنه لي انتظر تحية الصباح. وركز نظره شاخصاً دون أن يتكلم في عيني، فنقلت له الخبر بما وسعني الموقف وأسعفتني الذاكرة التي غابت في تلك اللحظة كل محفوظاتها رغم التحضير المسبق للأدعية والآيات الحاضة على الصبر والاحتساب عند المصيبة، فخنقت عبرتي ولعثمت لساني دمعة اغرورقت بها عيناه، فلم تغب وراء المقل، ولم تذرف على خده (وسم كبدي دمعة ما سربت.. ولا مسحها محمد بكف ولا كم).

وظل صامتاً، مسكت على يده وتهادينا نمشي حتى بلغنا مجلسنا، وقد سبقنا وأوقد النار لنصطلي من لم يبلغهم الخبر. وحينما تهافت الأحبة من الأهل والأصدقاء والجماعة بحضور القريب واتصال البعيد يباركون شرف الموقف الذي مات فيه ابننا. راجين الله بأن يقبله عنده من الشهداء المقربين. هانت المصيبة وبشرت التهاني بالسلوى في نفوسنا. ولا شك أن ما جرى قضاء وقدر مكتوب، مسبباً بقضاء الله وقدره، وفاء لقسم طوق أعناق أبناء القوات المسلحة في قطاعاتها المختلفة بالإخلاص والوفاء للدين والمليك والوطن. الأحياء منهم، ومن استوفوا آجالهم على أية صفة أو حال أفضوا فيها إلى ربهم. إلا أن ما يجب أن يذكر ويشكر وفاء لم يؤخذ له قسم ولا ميثاق. خفف الألم وأسى النفوس فكانت فرحتنا أكبر من حزننا -لأن حزننا على ما قد فات بقدر الله، وما فات مات، والنسيان رحمة من رب العالمين نرجو الله أن يرزقنا حسن الصبر والاحتساب- وللفرح أسبابه القائمة حية بيننا وفينا ممثلة بتوالي اتصال ولاة الأمر رعاهم الله. بحسن رعايتهم وتعازيهم ورقة مشاعرهم تجاه أبنائهم الأحياء وترحمهم المشفق على الشهداء إن شاء الله. وعلى رأسهم من هو على الرأس والعين خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين الذي عيدنا قبل أيام بعودته معافى ولله الحمد، وصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر أمير منطقة القصيم الذي يحول وجوده خارج المملكة في يوم تشييع الشهيد من محاولة الاتصال مكررا المحاولة أكثر من مرة لضعف التغطية الهاتفية لدينا لبعد أعمدة التغطية، والتي وعدنا بها ولم تتم حتى حينه. حاول حتى حقق غايته النبيلة بإسماعنا أرق عبارات المواساة والتعزية، والدعاء المستحب. طالبا نقلها لوالدة الفقيد وحرم الفقيد وكافة أفراد الأسرة. ليأتي إلينا التواضع يمتطي مركب المحبة، ليحتضن أطفال الشهيد ويقبلهم ويداعبهم ويسألهم بحنان الأبوة ويسألوه ببراءة الأطفال، ويلتفت التفات الابن البار لوالد الشهيد وأعمامه متباسطاً فأزال الكلفة فسمع واستمع، وهو في كل ذلك متأسيا بالسلف الصالح يدلل بالآية الكريمة والحديث النبوي الشريف. إنه الأمير الذي بهرني تواضعه حينما شرفتني المناسبة بلقائه فكتبت في هذه الصحيفة أمير الدالين د. التخصص الرفيع، ود. الأخلاق الأرفع، إنه من تعرفونه بتواضعه ودماثة خلقه صاحب السمو الأمير فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة القصيم.

هذه المبادرات النبيلة من ولاة الأمر ليست وليدة اللحظة، ولا تقع في سياق الحدث، بل سجية من سجاياهم الحسنة التي عرفوا بها. نسأل الله أن يجعل من قضوا في سبيل الدين والوطن والوفاء لعهد الولاء والطاعة والقسم الذي طوقوا أعناقهم به من الشهداء المقربين اللهم آمين، وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان، وأن يحفظ لبلادنا أمنها ويديم عز ولاة أمرنا. لما أولوه لهذا الوطن وأبنائه من حسن الولاية والرعاية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد