في غياب الوعي عن أهمية التربية الإسلامية وضرورتها لكل فردٍ من أفراد المجتمع الإسلامي صغيراً وكبيراً، ذكراً وأنثى، وما نتج عن هذا الغياب ضعف الأجيال الحاضرة من جميع الجوانب العلمية والثقافية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية والانفعالية.
كان لا بد من توضيح أهمية هذه التربية وفرضيتها على كل فرد مسلم، وذلك لضرورتها الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية لأمان الأفراد واستقرار المجتمعات وتقدمها.
قد يتساءل القارئ: لماذا التربية الإسلامية فريضة؟
قال الفقهاء: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، فالتربية الإسلامية واجبة لأنها الوسيلة لتطبيق الواجبات والفرائض الدينية، لأن أي نظام لن يكتب له النجاح والتطبيق العملي ما لم يُعِدّ الرجال ويُربي الجيل للقيام بمهام مسؤولية ذلك النظام وأعبائه وما لم يرغبوا في تطبيقه ظاهراً وباطناً(1). ولا يمكن تحقيق الشريعة الإسلامية إلا بتربية النفس والجيل والمجتمع على الإيمان بالله ومراقبته والخضوع له وحده. ومن هنا كانت التربية الإسلامية فريضة في أعناق الآباء والمعلمين، وأمانة يحملها الجيل للجيل الذي بعده، ويؤديها المربون للناشئين. وكان الويل لمن يخون هذه الأمانة أو ينحرف بها عن هدفها، أو يسيء تفسيرها، أو يغير محتواها. إنها تربية الإنسان على أن يحكم شريعة الله في جميع أعماله وتصرفاته ثم لا يجد حرجاً فيما حكم الله ورسوله، بل ينقاد مطيعاً لأمر الله ورسوله(2) قال تعالى (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) (65) سورة النساء.يغفل أو يتغافل كثير من الناس عن هذه الحقيقة، ويعتبر تطبيق التربية الإسلامية مسألة هامشية، وقضية فرعية، لا يؤاخذ الله عز وجل عنها، رغم أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال العلماء تملأ صفحات الكتب بالتوجيهات والتحذيرات، قال عليه الصلاة والسلام (ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن)، وقوله صلى الله عليه وسلم (لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين).
وفي التحذيرات قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (6) سورة التحريم، وقوله صلى الله عليه وسلم للخشخشاس العنبري عندما أتى ومعه ابن له، فقال له: ابنك هذا؟ فقال: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام (لا تجني عليه ولا يجني عليك).
كذلك كان لعلمائنا الأفاضل آراء كثيرة توجيهية وتحذيرية للمربين، فهذا الإمام الغزالي يقول (إن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإن عوّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له)(3).
لقد ذكر علماؤنا الأفاضل الأثر الذي يترتب على إهمال تطبيق المنهج التربوي الإسلامي من ظلم للأبناء في الدنيا والآخرة على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم وأمتهم الإسلامية. فالضرر الناتج من إهمال الطفل والتهاون في تربيته وتنشئته يضيع عليه سعادة الدنيا والآخرة، فهذا ابن القيم الجوزية يقول في ذلك (فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً)(4)، وقال أيضاً (وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته له على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوّت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء(5).
من هنا جاءت التوجهات النبوية لتحمل الآباء مسؤولية تربية أبنائهم تربية إسلامية صالحة، قال عليه الصلاة والسلام (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته). وقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه أحفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته).
ثم أمرهم أن يكونوا قدوة صالحة لأبنائهم مطبقين المنهج الإسلامي قولاً وعملاً في حياتهم العامة والخاصة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (3) سورة الصف، وذلك حتى يجد الطفل البيئة التربوية الصالحة والقدوة الحسنة، لأن ما يكتسبه الطفل من أبويه والمحيطين به هو الذي يبني شخصيته من جميع الجوانب، قال ابن القيم الجوزية (ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوَّده المربي في صغره من حرد وغضب ولجاج وعجلة، وخفة مع هواه وطيش وحدة وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له، فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته ولا بد يوماً ما، ولهذا تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قبل التربية التي نشأ عليها(6)، وقال الإمام الغزالي (ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ويحفظه من قرناء السوء..)، وقوله (فإن الصبي مهما أهمل في ابتداء نشؤه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذاباً، حسوداً، سروقاً نماماً لحوحاً ذا فضول وضحك وكياد ومجانة)(7).وهكذا.. الإهمال والتهاون في تربية الفرد تربية إسلامية صحيحة بكل مبادئها وقيمها وثوابتها وطرقها ووسائلها، تؤدي إلى أن يكون أسيراً وعبداً لشهواته، فيملأ الأرض ظلماً وفساداً، بغياً وعدواناً، فيصبح الفرد حظراً على نفسه وأهله ومجتمعه الذي يفقد أمنه واستقراره وطمأنينته، فتضطر الدولة إلى محاربة الفساد بكل أنواعه، وصرف الأموال الطائلة في فتح الإصلاحات والسجون والمحاكم حتى تستوعب المنحرفين في المجتمع وتصلحهم بدلاً من فتح المدارس والمعاهد والجامعات. ومن هنا أصبحت التربية الإسلامية ضرورة ملحة في المجتمع لإنقاذ أفراده من السقوط في مهاوي الرذيلة والفساد، وتنشلهم من حالات الضعف والهوان، وتربيهم على القوة والإيجابية، وتدفعهم لإعادة الحضارة الإسلامية العالمية التي تحتاج أفراداً مؤهلين متصفين بصفات العزة والكرامة، ومدربين على التضحية والإيثار، ومزودين بالعلم والخلق، وهذا كله لن يُنال إلا بالتربية الإسلامية الحقة.
وقد صدق مارتن لوثر عندما قال (ليست سعادة البلاد بوفرة إيرادها، ولا بقوة حصونها، ولا بجمال مبانيها، وإنما سعادتها بعدد المهذبين من أبنائها، وبعدد الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها).
(1) يالجن، د. مقداد. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. الطبعة الأولى 1406هـ - 1986م ص 33.
(2) النخلاوي، عبدالرحمن. أصول التربية الإسلامية وأساليبها. دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى 1399هـ - 1979م ص 17.
(3) الغزالي، أبو حامد، محمد، محمد، إحياء علوم الدين. بيروت، دار الفكر، الطبعة الأولى 1406هـ - 1986م ج3 ص 78.
(4) ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبي عبدالله، تحفة المودود بأحكام المولود، دمشق، دار البيان، الطبعة الرابعة 1414هـ 1994م ص 147.
(5) المرجع السابق، ص 146-147.
(6) المرجع السابق ص 146
(7) مرجع سابق، الغزالي، أحياء علوم الدين. ج3 ص 78.
(8) المرجع السابق، ج3 ص 78.
- أستاذ مشارك التربية الإسلامية بكلية التربية للبنات الأقسام الأدبية