Al Jazirah NewsPaper Tuesday  16/02/2010 G Issue 13655
الثلاثاء 02 ربيع الأول 1431   العدد  13655
 
العمل الوظيفي بين الأمانة والإتقان
د. محمد بن عدنان السمان

 

لقد تعددت الرؤى بعد الفاجعة التي حدثت في مدينة جدة في شهر ذي الحجة الماضي بعد تلك السيول التي خلفت كثيراً من الخسائر البشرية والمادية، التي نسأل الله أن يرحم الموتى وأن يشفي المرضى وأن يخلف على المتضررين بخير.

أقول تعددت الرؤى إلى أن صدر من مقام خادم الحرمين الشريفين - وفَّقه الله - ذلك القرار التاريخي والأمر الملكي والذي تضمن مجموعة من الحلول الآنية والمستقبلية، لكن يهمني في مقامي هذا وجعلت ذلك كالمقدمة لحديثنا في هذه الكلمات ما يتعلق فيما ورد فيه بالنص التالي، حيث قال أيّده الله: (واضطلاعاً بما يلزمنا من واجب الأمانة والمسؤولية التي عاهدنا الله تعالى على القيام بها والحرص عليها تجاه الدين ثم الوطن والمواطن وكل مقيم على أرضنا فإنه من المتعيّن علينا شرعاً التصدي لهذا الأمر وتحديد المسؤولية فيه والمسؤولين عنه - جهات وأشخاصاً - ومحاسبة كل مقصّر أو متهاون بكل حزم دون أن تأخذنا في ذلك لومة لائم تجاه من يثبت إخلاله بالأمانة، والمسؤولية الملقاة عليه والثقة المناطة به، أخذاً في الاعتبار مسؤولية الجهات المعنية كل فيما يخصه أمام الله تعالى، ثم أمامنا عن حسن أدائها لمهماتها ومسؤولياتها، والوفاء بواجباتها، مدركين أنه لا يمكن إغفال أن هناك أخطاءً أو تقصيراً من بعض الجهات).

إن هذه النظرة الفاحصة من ولي أمرنا - وفَّقه الله - تذكّرنا بواجب عظيم من الواجبات التي يجب أن نذكّر بها أنفسنا بين فينة وأخرى، ووقت وآخر، لأن أصل المحاسبة من الله قبل كل شيء.

إن الوظيفة التي يتبوأها الإنسان في هذه الحياة وبخاصة تلك الوظيفة التي يتسلّم الموظف مقابلاً مالياً عليها سواءً كانت من القطاع الحكومي أو الخاص يقضي فيها خلال اليوم والليلة ما يقارب ثلث يومه أو يزيد، وبعد هذه المقدمة وإذا كان ذلك كذلك فلنا مع هذا الموضوع مجموعة من الوقفات:

الوقفة الأولى: الإخلاص ركن من أركان العمل الصالح المقبول والمأجور عند الله، فلنذكّر أنفسنا بتجديد الإخلاص لله سبحانه وتعالى في أعمالنا الوظيفية، وأنها أولاً ابتداءً ابتغاء وجه الله نريد منها النفع لديننا وبلدنا وأمتنا، نريد منها المال الحلال الذي ننفق منه على أنفسنا وأسرتنا.

ثم وقفة ثانية، وهي تذكير وتذاكر، إنها الأمانة تلك الكلمة العظيمة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فكان ما ذكر الله {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب 72).

إنها الأمانة تلك الكلمة الشاملة لجميع مناحي الحياة من العبادات والمعاملات والتي يدخل فيها يقيناً العمل الوظيفي، لهذا لما فسر الإمام ابن كثير رحمه الله قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال 27).

قال رحمه الله: قلت: والصحيح أن الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبب خاص، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار، اللازمة والمتعدية.

إنها الأمانة التي تتضمن من الموظف المسلم أن يؤدي عمله بإتقان، وفي وقته، دون تأخير أو تعطيل، أو تلاعب أو تساهل، أو إخلال أو تقصير.

إنها الأمانة التي يراعيها الموظف مع ربه بمراقبته، وعلمه بأنه مطلع عليه إن هو اقترف معصية في وظيفته فأدخل على نفسه مالاً لا يحل له بأي صورة كانت سواءً عن طريق الرشوة أو السرقة أو التحايل أو التعدي أو الفساد، أو الشفاعة لغير أهلها أو في غير محلها، واسمعوا إلى الوصية النبوية حينما خاطب صاحبه وقال صلى الله عليه وسلم: (يا كعب بن عجرة! إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به). رواه الترمذي بسند صحيح.

إنها الأمانة التي يراعيها الموظف مع زملائه في الوظيفة فإن كان مديراً كان قائداً حكيماً، متحلياً بالأخلاق الفاضلة، ينظر ويعامل مرؤوسيه معاملة عادلة، يعطي كل ذي حق حقه، إن المسؤولية أمانة وتكليف قبل أن تكون منصباً أو تشريفاً، وإن كان مرؤوساً يتحلَّى بالجميل من الأخلاق ويؤدي عمله كما طلب منه على أكمل وجه، في الحديث الحسن: (إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، والإتقان في العمل عام في أمور الدين والدنيا.

إنها الأمانة التي يراعيها الموظف مع المراجعين، والمتعاملين مع عمله ووظيفته، بأن يتعامل بأخلاق الإسلام العالية، وآدابه الرفيعة، وأن من أبرزها بشاشة الوجه والصدق والحلم وتوقير الكبير واحترام الصغير والصبر وحسن المعاملة والرفق واللين.

ثم يا أيها الأخ الفاضل يا من وليت عملاً يتعلق بالناس وبمصالحهم إياك أن تتهاون في مثل هذه الأمانة، أنجز للناس معاملاتهم وأقضِ لهم حوائجهم في وقتها وعلى أكمل وجه، وتذكّر أنك كما تتمنى عندما تذهب أنت إلى دائرة حكومية أو خاصة وتأمل أن يتم لك مقصودك بأسرع وقت وبالصورة المطلوبة، إذا كنت كذلك فالناس يأملون منك ما تأمل من غيرك.

إن قضاء حوائج الناس من أجل الأمور، في الحديث الصحيح لغيره قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله عباداً خلقهم لحوائج الناس «يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون يوم القيامة»).

إن من أداء الأمانة في العمل الوظيفي، المحافظة على وقت الحضور والانصراف وعدم الغياب بدون عذر، فهذا الوقت أنت كموظف تأخذ عليه مقابلاً مالياً، فيجب أن تحافظ عليه وأن تصرفه في وقت العمل المطلوب منك، وألا تشغله بغير ذلك.

أما ثالث الوقفات في موضوعنا، العمل الوظيفي بين الأمانة والإتقان، إن من الأمانة وخاصة فيمن ولي أمانة اختيار الرؤساء والقادة، أن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب فلا يسند منصباً ولا وظيفة إلا لمن هو أولى بها أمانة وإتقاناً، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات، وانظروا إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم كيف يعتذر لصاحبه أبي ذر رضي الله عنه وقد طلب أبو ذر رضي الله عنه الولاية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي عند الإمام مسلم: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً. وإني أحب لك ما أحب لنفسي. لا تأمرن على اثنين. ولا تولين مال يتيم)، قال له ذلك مع أن أبا ذر رضي الله عنه معروف بالشجاعة والقوة البدنية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم مع تزكيته لأبي ذر رضي الله عنه في أكثر من موضع وترحمه عليه إلا أنه يعلم فيه صفة لا تعيبه، فكل ميسّر لما خُلق له، فالبعض يصلح للقيادة والرئاسة والأكثر يصلح أن يكون مرؤوساً ومنفذاً، وعلى ذلك تصلح حياة الناس.

وفي الختام هذه وقفات يسيرة تذكّرنا بواجباتنا أمام الله أولاً ثم أمام من ولاّنا ما نحن عليه من وظيفة أو منصب، وهي تذكّر وتذكير، والأمة فيها ولله الحمد الكثير من الرجال والنساء الذين يتقون الله ويراقبونه في أعمالهم الوظيفية مع أدائها بجودة وإتقان وأمانة.

- المدير التنفيذي لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد