|
إلى صفا لك ساعة وأنت مشتاق |
فاقطف زهر ما لاق فالعمر ملحوق! |
|
فتح شاعر نجد الكبير بهذا البيت لشعراء النبط عموما وفي نجد على وجه الخصوص, نافذة إبداعية مغلقة, وأزاح عن أعينهم حجابا ساترا, وعن أرواحهم حاجزا نفسيا, للتعبير عن معنى اهتبال الفرص التي تحمل معها اللذائذ المختلفة, واستطاع ب(فتوى شاعر) أن يزلزل في أذهان البعض, وخصوصا ذوي النفوس التي تصفها العامة بأنها (خضرا), كثيرا من المعيقات التي تقف مانعا - ولو واهيا - أمام مباشرة ما يعنّ لهم من ملذات. فهو يخاطب نفسه نيابة عن الكل, ويقول: إذا لاحت لك ساعة صفاء فاغتنمها فورا.. والصفاء يشمل ولا شك كل أنواع المُبهجات والملذات بلا حدود.
|
وهذا المعنى لم يبتكره القاضي بالطبع, فهو معروف مستهلك متداول منذ القديم, قال الشاعر العربي ابن هَندو الداني, ويروى أيضا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه مع اختلاف يسير:
|
إذا هبّت رياحك فاغتنمها |
فعقبى كل خافقة سكون |
وتردد هذا المعنى في مواضع عديدة في رباعيات الخيام, منها:
|
سارع إلى اللذات قبل المنون |
فالعمر يطويهِ مرور السنين |
وفي هذا المعنى أيضا قال إبراهيم الغزي:
|
خذ ما صفا لك فالحياة غرور |
والدهر يعدل تارة ويجور |
|
تمتع من الدنيا بساعتك التي |
ظفرت بها ما لم تعقك العوائق.... إلخ |
|
(إلى صفا لك ساعة وأنت مشتاق فاقطف زهر ما لاق)
|
أي جديد يوجب التوقف من حيث المعنى, فهو - كما ذكرت - معنى مطروق متداول, وإن كانت صياغة البيت وألفاظه وتصويره, فيها من الشاعرية ما لا يخفى.
|
لكن عبارة (فالعمر ملحوق) قلبت موازنة المعنى, ورجّحت كفة معادلة الجمال, ونفضت عن البيت غبار الرتابة, ونقلته من العادي إلى المدهش, والإدهاش هنا تجلى في مراعاة البيت لتساؤل متوقع يمثل هاجسا قويا لدى القارئ وهو هاجس الدين المسيطر على حياة الناس, فقلّل - بدليل يُقنع (الجاهز على الأقل!) من تبعات مقارفة ذنب انتهاز فرصة مباشرة اللذة.
|
ومن مظاهر الإدهاش فيه أيضا التحوّل عن عبارة (يمديك تتوب!) الصادمة بصراحتها لمشاعر المتردد, إلى التكنية بعبارة (فالعمر ملحوق) اللطيفة.
|
كما تجلى جمال البيت في المجاهرة بالخضوع لسلطان اللذة وتسويف التوبة, وهذا النوع من العصيان مرفوض رفضا مطلقا خارج سياج الشعر.
|
لقد سار البيت مسير المثل, بل إنه أصبح مثلا فعلا, وقد أُعجب عدد من شعراء النبط بهذا المعنى, فذكروه في بعض قصائدهم, أما على سبيل المعارضة التامة, كما قال ابن جابر (ت 1392هـ-) ضمن قصيدة أرسلها إلى صديقه الشاعر عبدالعزيز المحمد القاضي (ابن شاعر نجد الكبير):
|
إلى صفا لك ساعة مدمج الساق |
اقطف زهر بستان صاحبك لو بوق |
من قبل يسعى لك نيا البين بافراق |
دنياك لو فيها تماديت ملحوق |
انهب ولا يغديك في طيب الأوفاق |
عصر الطرب والعمر تاليه ملحوق |
وجدير بالذكر الإشارة إلى أن الشاعر رحمه الله (لم يلحق تالي العمر) كما يقول في البيت الأخير, فقد توفي مأسوفا على شبابه وهو في الحادية والعشرين من عمره, حسب المشهور, أو في الثلاثين أو بعدها بقليل حسب المرجّح.
|
وقال عبدالعزيز الغصاص (ت 1328هـ) في قصيدة عارض بها قصيدة القاضي في القهوة أيضا:
|
اقطف نوايع ما صفا لك وما لاق من قبل ما يلحق على العمر ساحوق؛ و(ساحوق) المقصود به الموت وهذا البيت تطرق إلى العادي في بيت القاضي, ولم يتناول المدهش كما تناوله ابن جابر قبل قليل, وهو تسويف التوبة.. وقلنا قبل قليل إن بيت القاضي ليس فيه ما يوجب التوقف لولا عبارة (فالعمر ملحوق), ولذلك فإن بيت الغصاص هنا ليس فيه ما يستدعي التوقف أيضا سوى أنه يشير إلى بيت القاضي. وهناك من عرض معنى البيت على سبيل المعارضة الناقصة, كما جاء في قول أحمد الصالح البسام (ت 1403هـ) في قصيدة عارض بها قصيدة القاضي أيضا, ولكن بقافيتين مختلفتين, وذكر الأستاذ أحمد الدامغ في كتابه القيّم (الصفوة فيما قيل في القهوة) أن قصيدة البسام ليست سوى إعادة صياغة لقصيدة القاضي, وقد صدق.. قال البسام:
|
فإلى صفا لك صافي الود لو يوم |
فاقطف زهر ما لاق قبل العدامي |
والبيت وإن كان تردادا لمعنى بيت القاضي إلا أنه قصَّر عنه في مسألة الإدهاش, كما قصر بيت الغصاص, فلم يُشِر إلى مسألة تسويف التوبة التي فجرت الإبداع في البيت, وجرّت كل هذا الحديث هنا.
|
وهناك من ذكر المعنى ولم يقصد المعارضة, كالأمير محمد الأحمد السديري في قوله:
|
اقطف زهر ما لاق والعمر بأسمال |
والحِق هوى روحك لروحٍ رجتها |
ووأضح أن بيت القاضي كان حاضرا في مخيلة السديري عندما قال هذا البيت.
|
وهناك من تحدث عن أهمية انتهاز الفرص بصفة عامة كما قال الأمير خالد الفيصل:
|
إلى صفا لك زمانك علّ يا ظامي |
اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها |
|
حقق لنفسك بالحياة الرغايب |
واقطف زهورٍ من جميع البساتين |
اللي حرم نفسه من الحب خايب |
واللي حرمه الله من الحب مسكين! |
والبيت الثاني من أجمل وأعذب ما سمعت في هذا المعنى.
|
|
يا بنت خشيني معك بالثوب |
لا دام ما به من هَلِكْ والي |
يا بنت من قبلك علي ذنوب |
وأبلحق الأول مع التالي |
وأبسبح اِبْ(ما) زمزمٍ واتوب |
واطيح بين إيديك يالوالي |
وروعة الأبيات هنا تبدو في بساطة الفكرة وسحر الصورة..
|
ولا أرى في بيت القاضي هذا دعوة إلى التحرر من الضوابط الشرعية, كما قد يتصور من لا يفرّق بين الشعر والفكر, بل أراه خيال شاعر, وتعبير فنان مرهف الحس, وفكرة من الأفكار المدهشة التي يعالجها الشعراء في قصائدهم على سبيل الإمتاع في التفكير والتعبير والتصوير, لا على سبيل الاعتقاد والاقتناع. وتحميل الأمور فوق ما تحتمل نوع من الإجحاف والظلم بحق الشعر والشاعر..
|
والقاضي رحمه الله هو الذي يقول:
|
ولا تسلك إلا مسلك الدين والتقى |
ولا تنزل إلا في علا روس الأشرافي |
|
والعمر فَيٍّ زايلٍ لا محالة |
وبالحشر ينشر من عمل وزن خردال |
|
والمكر وآثار المعاصي لها شوم |
وأخطا الخطا حطَّ الحلال الحرامي |
ومن عف عاف وكف نفسه عن الهوى |
أدرك بها مقصود غايات الآمالي |
|