Al Jazirah NewsPaper Sunday  21/02/2010 G Issue 13660
الأحد 07 ربيع الأول 1431   العدد  13660
 
بمناسبة اليوم العالمي للغة الأم اللغة العربية وآفاق المستقبل العربي
بقلم: د. أحمد بن محمد الضبيب

 

ليست اللغة حروفاً ولا كلمات أو جملاً ينسجها الإنسان ليعبر بها عن مكنونات نفسه، وضرورات حياته وحسب، وإنما هي أخطر من ذلك بكثير. إنها فضاء واسع يحيط بك من كل جانب، وعالم فسيح تدخله منذ أن تعرف الحياة، فيدهشك بجاذبيته وسحره، وبسطوته وجبروته.

بدون اللغة لا تعد إنساناً، وبها بدأت الحياة الحقيقية للبشر، وبدونها لا تبنى الحضارة، فلولاها لما توصل الإنسان إلى معظم إنجازاته، مذ سكن الأرض حتى العصر الحاضر. ولو اختفت اللغة لتوقف فكر الإنسان، وعاش كما تعيش العجماوات.

واللغة إلى جانب ذلك ترسم شخصيتك، وتعرب عن ثقافتك، ودرجة نضجك، ومقدار تخلفك على المستويين الفردي والجمعي. وهي حين ترسم ذلك تفعله بناء على جدك ونشاطك، وقدرتك على التثقف والتثاقف، وشحذ مواهبك للابتكار والإبداع، أو خمولك وكسلك، وتثاقلك عن الجد والعمل.

اللغة نتاجك أنت، وهي قادرة على أن ترتفع بمجتمعك إلى أعلى المراتب، وأن تدخله عصور التقدم والازدهار، أو ترتد به إلى عصور الجهل والظلام.

إنها تختصرك، بكل ملامحك الماضية والحاضرة، وهي بلا شك مرآة عاكسة لما يمكن أن يكون عليه مستقبلك.

وعلماء اللغات لا يفاضلون بين اللغات إلا بمقدار ما اكتسبته كل لغة من حظوظ مستعمليها، فكل لغات العالم مرشحة لأن تقود أهلها إلى التقدم، إذا ما تهيأ لها من نشاط أهلها ما يدفعها إلى ذلك. ليس هناك لغة متقدمة وأخرى متأخرة إلا بمقدار حظ مستعمليها من التقدم والتأخر.

لذلك كانت اللغة عاملاً فاعلاً في المجتمعات، لا يستغني عنها منه أي مجال، ولذلك وقف الباحثون والدارسون أمام اللغة يدرسونها من جميع الجوانب، فظهرت علوم كثيرة ترتكز على دراسة علاقة الإنسان باللغة في أنشطته المختلفة.

ولعل من أهم القضايا التي لم تجد مكانها من البحث الجاد لدينا دراسة أهمية اللغة في حياتنا بوصفها أداة للتنمية والتقدم. وهي قضية لم تأخذ حيزاً واضحاً في فكر القائمين على التخطيط للتنمية في البلاد العربية، ولم يلتفت إليها الساسة وأصحاب الشأن عند وضع المشروعات المستقبلية. فعلى الرغم من أن خططنا التنموية الشاملة تعنى بالإنسان بالدرجة الأولى، إلا أنها تهمل بدرجة كبيرة كيفية الوصول بهذا الإنسان إلى الأهداف المرجوة من خلال اللغة التي هي بلا شك من أهم الأدوات لإحداث تنمية حقيقية، وذلك لكونها الوسيلة الناجعة للتواصل ونقل المعرفة بين الأجيال، ونشرها بين أفراد المجتمع.

لم يسأل أحد من هؤلاء المخططين نفسه عن اللغة التي نحتاجها لتخطي هوة التخلف واللحاق بالأمم الناهضة. ولم نجد ضمن هذه الخطط ما يدعو حقيقة إلى اختيار لغوي، قد يساعدنا على ذلك. كما نجد تجاهلاً غريباً -متعمداً أو غير متعمد- لتجارب الأمم المتقدمة في هذا الشأن.

والواقع أن المفكرين وأصحاب الرأي -من غير التنفيذيين- لم يغفلوا عن حقيقة ضرورة اختيار لغوي يقود إلى التقدم. فقد طرح السؤال منذ القرن التاسع عشر مرات عديدة، ومنها ما جاء في مقال نشر في الجزء السادس من السنة السادسة لمجلة المقتطف (تشرين الثاني 1881م)، عنوانه «اللغة العربية والنجاح»، وصف فيه كاتبه حال اللغة العربية، وتساءل عن قدرة الوضع اللغوي في ذلك الوقت لإيصال العرب إلى طريق النجاح، وخلص إلى اقتراحات معينة تجاوب معها القراء ومشاهير الكتاب بالنقاش قبولاً ورفضاً.

فأنت ترى أن الشعور بقوة الصلة بين اللغة واللحاق بركب الحضارة كان قوياً -بين مفكرينا- في ذلك الزمن. فهل خفت هذا الصوت ولم نعد نسمع له صدى في زماننا هذا؟ ثم إذا كان الموضوع قد طرق قديماً، فما فائدة إثارته مجدداً؟

الواقع أن هذا الصوت لم يخفت بل ظل يتردد في أنحاء الوطن العربي، تارة في صورة نداءات فردية، وأخرى في صورة مؤتمرات وندوات تقام هنا وهناك، ومنها مؤتمرات أقامتها الدول العربية ضمن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ووافق عليها وزراء ورسميون يمثلون هذه الدول. بل إن الخطة الشاملة للثقافة العربية التي وافق عليها مؤتمر وزراء الثقافة العرب الخامس في تونس سنة 1985م، قد أشارت إلى أهمية الحفاظ على اللغة العربية الفصيحة باعتبارها رابطة اجتماعية فكرية من الدرجة الأولى، لكن معظم هذه الدول لم تلتزم بما اتفقت عليه.

ما أكثر ما قيل عن أهمية تعريب العلوم، وما أكثر ما كتب فيه من كتب وبحوث، وما أكثر ما صدر من مقررات المجامع اللغوية، والجمعيات المهنية، والندوات العلمية التي أكدت على أن تقوية العربية الفصيحة من أساسيات النهضة، وأن التعريب هو الخطوة الضرورية المهمة، التي سوف تنتشل الأمة من التخلف إلى التقدم، كما فعلت أمم الدنيا جميعاً. لكن ذلك كله باء بالإهمال، وكأن ذلك الأمر لا يعني مستقبل أمة، ولا يمس مصالح شعب يتوق إلى التطور والنمو.

وبدلاً من ذلك زحف التغريب على العقول، وكان خياراً عشوائياً، فأقصى العربية عن السوق، بصورة تكاد تكون كاملة. فبسطت اللغة الأجنبية سطوتها في مجال العمل، كي تمسك بلقمة عيش المواطن العربي، فلا يكاد يجد عملاً إلا إذا أتقن لغة أجنبية. واستتبع ذلك خروج دعوى ملاءمة مخرجات التعليم لسوق العمل، وهي كلمة حق أريد بها باطل، حين تكشفت في النهاية عن أن المقصود هو إتقان الطالب اللغة الأجنبية وحسب دون تغيير يذكر في محتوى المناهج التعليمية. ولهذا صبغ التعليم بصبغة أجنبية، لا في الجامعة وحدها بل في المدارس منذ السنوات التعليمية المبكرة، بدعوى إقدار الطلاب على التمكن من اللغة الأجنبية منذ نعومة أظافرهم فيخرجون إلى المجتمع وهم يتحدثون الأجنبية فيما بينهم، ويتراسلون بها، ويعبرون بها عن دواخل نفوسهم، دون اكتراث بلغتهم الأم التي يفترض أن تكون عنوان هويتهم وركيزة ثقافتهم.

إن مسخ أذهان الصغار لغوياً يعد جريمة في حق هؤلاء الصغار، الذين من حقهم على المجتمع أن يتعلموا بلغتهم الأم، إلى جانب أن نتيجة هذا المسخ المنظم سينتهي بالأمة إلى ظهور أجيال منقطعة الصلة بجذورها، تتغذى على فتات موائد الأجنبي الذي لن يعطيها منها إلا بالقدر الذي يضمن تبعيتها له، لا الخروج عن طاعته فضلاً عن مقارعته والتساوي معه.

لقد أدت كثير من التأثيرات المعاصرة للعولمة إلى اهتزاز كثير من المسلمات، وبعض القيم. ومنها مسلمات وقيم تمس الهوية الثقافية العربية، وعلى رأسها ما يخص اللغة الفصيحة. فالعربي الآن يهتم بلغة العيش وهي اللغة الأجنبية، وبلغة الحياة العامة وهي العامية. أما اللغة الفصيحة فلم يعد إتقانها مهماً، حتى عند كثير من المثقفين الذين يديرون الحوارات الشفهية بينهم بالعامية، ولا يستنكفون من الأخطاء اللغوية إذا مارسوا الكتابة أو الإلقاء. فإذا أضفنا إلى ذلك أن جميع المؤثرات على الإنسان العربي من قبل وسائل الإعلام الفضائية، ومواقع الشابكة (الإنترنت)، إنما تثبت هذا الوضع أدركنا عمق الأزمة التي تمر بها لغتنا الفصيحة.

ويضاف إلى ذلك أن وضع اللغة المكتوبة في المشهد الثقافي العربي أصبح متراجعاً، وتأثير الوسط الثقافي الفصيح لم يعد جاذباً للجمهور. لقد انقطعت صلة العربي (تقريباً) بشعر العمود وشعر التفعيلة (بسبب الإقصاء لهذا الشعر في المشهد الثقافي، أو بسبب رداءة المنتج منه)، وهو نمط من الشعر يتفق والذائقة العربية العامة، ويجتذب المتلقين، وانصرف الشعراء إلى نمط نثري يتوشح بالغموض، ويتدثر بالرمزية المتكلفة، لا يقرؤه إلا أصحابه وخاصتهم من القراء، الأمر الذي فسح المجال لشعر العامية المحلية كي يملأ الفراغ، ويكون له الجمهور العريض على امتداد الوطن العربي، ومن مختلف الطبقات. أما الرواية فليست بأحسن حظاً من الشعر، فهي تسوق للعامية، وللأساليب الغريبة على روح اللغة العربية.

إن يوم اللغة العالمي الذي تحتفل به الأمم بلغاتها هو يوم ذو مغزى كبير فالاحتفال باللغة هو احتفاء بالثقافة الخاصة بكل شعب، إذ اللغة مفتاح الثقافة في جميع أشكالها وألوانها، والثقافة هي الأساس الذي تنبني عليه شخصية الأم، من دين وتراث وتاريخ، وتطلعات وأفكار، إلى جانب آمال كل أمة في التقدم وتحقيق المنجزات، وذلك كله لا تقوم به إلا اللغة الأم، أما اللغة الأجنبية فلن تستطيع مهما بلغت درجة إجادتها أن تقوم بالمهمات الصعاب التي تقتضيها التنمية في الوطن العربي بجميع وجوهها من اجتماعية واقتصادية وغير ذلك فضلاً عن التقدم المنشود.

إن هذا اليوم هو يوم احتفاء الأمم بلغاتها والعمل على ترسيخ الاتصال بها، وتمكينها من الحضور الكامل في مجتمعاتها، فهل يوقد فينا اليوم العالمي للغة الأم جذوة الاهتمام بالهوية، والدفاع عن الشخصية الوطنية، والحرص على الكرامة العربية، والسير في الاتجاه الصحيح الذي تسير عليه دول العالم المتقدم التي تهتم بلغاتها علمياً وتربوياً وإعلامياً؟ فتبني بذلك شعوباً ترتبط بالدين والتراث، والثقافة الأصيلة، وتقوم في الوقت ذاته بتحقيق المنجزات الباهرة عبر لغاتها القومية.

لن يتم لنا ذلك إلا بمراجعة السياسات اللغوية العشوائية، التي تقوم على المكاسب الآنية، وينتج عنها الأضرار العظيمة في المستقبل. وأن نستبدل بها سياسات جادة مماثلة لما يجري عند الآخرين الذين حققوا شأواً عظيماً في مضمار التقدم والنجاح. ولنتذكر أننا في هذا الوطن العظيم يجمع بيننا دين واحد ولغة عربية واحدة، هي العربية الفصيحة لغة القرآن الكريم والتراث، وأن العرب جميعاً لا تجمع بينهم من أسباب الوحدة، في الوقت الحاضر، إلا هذه اللغة العربية الفصيحة المشتركة التي لولاها لتفرقوا مزقاً في هذا العالم. ومن خلال هذه الأداة (الوحدة اللغوية) -التي تتمناها كثير من التكتلات العالمية ولا تستطيع تكوينها- نستطيع أن نحقق الكثير علمياً واقتصادياً، وأن ندخل ساحة الإبداع والإنتاج وما يتبعهما من ساحات الرخاء والرفاه.



abuamr116@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد