Al Jazirah NewsPaper Friday  05/03/2010 G Issue 13672
الجمعة 19 ربيع الأول 1431   العدد  13672
 
نوازع
في حديثك
د. محمد بن عبد الرحمن البشر

 

عندما تريد أن تساير صاحبا ذا شأن ولا تعلم غايته ورأيه فيما ستورد، فإنه قد يقع لك من الإحراج ما يجعلك تبحث عن أفضل السبل للخلاص، والرأي لدي أن تبقي رأيك وتستعين بالله وتتلطف في القول، وعلى الله الاتكال.

أما ما حدث لأبي العباس السكري الإسكندري ذلك الرجل الممتع في حديثه والطيب في مجالسه أثناء حضوره مجلساً لأحد ولاة الطوائف بالأندلس، ويقال له إسماعيل ابن ذي النون فإنه كان موقفاً محرجاً أراد أبو العباس الخلاص منه فلم يحسن، ذلك أنه بعد أن أخذ مكانه في مجلس إسماعيل ابن ذي النون، سأله إسماعيل عن أحد ولاة قرطبة السابقين، ويقال له ابن حمود الحسني من نسل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأثنى عليه إسماعيل ظناً منه أن ذلك سيرضيه غير أن ذلك الوالي، قال: أتثني على الأدعياء فعل الله بهم وصنع؟ فبهت أبو العباس الإسكندري، وقال: معذرة لك أيدك الله، فإني جهلت رأيك في هذا الرجل مع أني ألزمت نفسي ألا أذم ذا سلطان البتة، وحاول أبو العباس تصحيح الوضع، فأخذ في الثناء على بني أمية لما يعلم من خلاف بين الهاشميين والأمويين، ولكون إسماعيل بن ذي النون يقول بإمامة بني مروان، فقال أبو العباس: أنت غير منازع في أئمتك المروانية، وهم أهل لذلك منك، أقاديم الملوك، وذوي العدل والسياسة، ومضى أبو العباس في إطرائهم ظناً منه أنه يسره، فقطع إسماعيل حديثه بأسوأ قطعة عند حديثه عن الهاشميين، وأنحى على ذم بني أمية فلم يبق، ووصل كلامه بأن قال كلاماً لا يجدر بي إيراده، ثم أردف قائلاً: والله ما أولي غير نفسي، ولا أقوم إلا بسلطاني ولو نازعنيه فلان وفلان، وذكر أسماء لا يليق بنا إيرادها، لضربتهم دونه بسيفي ما استمسك بيدي، فلم يستطع أبو العباس الكلام حتى وجد الفرصة المناسبة للقيام، فغادر البلاد كلها، فأفشى بهذا الكلام.

لوكان أبو العباس منافقاً ولم يلزم نفسه بذم السلاطين، لمال مع الوالي حيث تميل الريح ولساعده في ذم الهاشميين ومن ثم ذم المروانيين طبقاً لشهوة الوالي وهواه.

يحدث مثل هذا كثيراً، وبعض من الناس لا يدلي بدلوه حتى يرى رأي من يتصدر المجلس فيقول، كما يقول ليتلافى الحرج، ويجعل الله له الفرج، غير أن الأجدى أن يقول المرء رأيه بلطف العارف للمقام، ويصمت إن لم يوافق رأيه غيره من الأنام، أو يبرر قوله بكلام مقنع لعله يجد أذناً صاغية.

وأذكر فيما قرأت أن أحد حكام الأندلس كان يترفق مع أحد خواصه في الحديث عن موضوع بعينه، ولا يدلي بدلوه حتى يسمع من جلسائه رأيهم فيه، حتى لا يعرفون رأيه فيقولون بقوله، وبعد ذلك يختار ما يراه أصوب من آرائهم، وقد لا يجهر بما ناسب رأيه حتى لا يجعل المخالف في حرج ولا يصده عن قول ما يراه في جلسات قادمة.

هذا الحديث يجرنا إلى التدبر في أمر الإدلاء بالرأي وطريقة طرحه، مع حسن المعرفة بقدرات المتلقي ومعرفته ولغته واستيعابه.

ومن الأولى أن يكون الطرح لينا مع واقعية القول وملاءمته لمقتضى الحال، لكن إذا كان البون شاسعاً بين المتلقي المدلي برأيه في الثقافة ومدى الإدراك، فالأجدر به مفارقة المجلس والبحث عن مجلس آخر يناسب مكانته لمن يعرفون لفظه الأدبي ونهجه الفكري.أما من يلوم غيره في عدم قبوله مع قدرته التي لا تناسب قدرات المتلقي فهذا مجاف للصواب.

وأذكر أن أحدهم دعا مع من دعا رجلاً يعرفه ويعرف أحد زملائه، فأخذ المدعو في الثناء على الزميل ظناً منه أن ذلك سيؤنسه، وهو لا يعلم ما بين الزميلين من شقاق مرير، كان الداعي رجلاً أحمق فيه الكثير من الاستعجال، فما كان منه إلا أن قال: أخرج، أخرج الله ما أكلت، أجئت لتأكل من مائدتي وتأكل من راحة نفسي بذكرك لرجل بيني وبينه ما بين جرير الفرزدق وابن أبي عامر والمصحفي، وابن ذي النون وابن هود، وابن الأفطس وابن عباد، فو الله لا بقيت في مجلسي برهة فأخرجه من داره، وغادر الرجل مبهوتاً لأنه لم يزل زلة تستوجب ذلك الفعل.

فسبحان الله كيف يصرف العقول والأفئدة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد