Al Jazirah NewsPaper Sunday  07/03/2010 G Issue 13674
الأحد 21 ربيع الأول 1431   العدد  13674
 
الوطن كما نحبه!!
د. عبد المجيد محمد الجلاَّل

 

الانتماء إلى القبيلة أو العشيرة أو الحمولة جزءٌ أساس من ثقافة الشعوب والمجتمعات الإنسانية، وبنية اجتماعية معتبرة، ذات امتدادات زمنية متباينة في القدم، تشكَّلت خلالها خصائص هذا الانتماء، وسماته، وألوانه، ومظاهره، وأدواته، تواتر على رصد مخزونه جيلٌ إثر جيلٌ، ومجتمعٌ إثر مجتمع.

وإذا كان هذا الانتماء بكل جذوره نتاجاً ثقافياً، وإرثاً إيجابياً، لا مندوحة في المحافظة عليه، والتَّجمُّل بمحتواه، والتفاخر بمضمونه، فإنَّ التَّجاوز في حدود ما تقتضيه هذه القيمة التراثية، سيقود حتماً إلى نشوء «العصبيّة» بما لها من تأثيرات سلبية متعددة المحاور والأبعاد، تمس محيط القضية الأكبر، المتمثلة في الانتماء للوطن بسمائه وأرضه وموارده، وبكل فضائه المتنوّع الذي يستوعب مواطنيه، بطوائفهم وانتماءاتهم المختلفة، في إطارٍ عامٍ من قواعد الأخوة والمحبة والسِّلم الاجتماعي.

التَّعصُب غير المحمود للقبيلة والعشيرة له امتدادات خطيرة نسبياً على أكثر من محور، لعلَّ من أبرزها: إضعاف وحِدة الدِّين وقِيمه العليا، ومقومات الوحدة الوطنية، ومخرجات البرامج التنموية والمعرفية والإدارية.

في المحور الدِّيني نصوص وتوجيهات وتطبيقات تنبذ العصبية ودواعيها، وتؤسس لمنهج التقوى والعمل الصالح، كأساس للتفاضل والتميز بين أفراد المجتمع {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (‏ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية) ومن هذه القواعد والأسس المتينة ساد المسلمون في عصور الإسلام الأولى، وشيّدوا حضارة إنسانية، وبيئة معرفية، ظلت لحقبٍ زمنية عديدة تمدُّ أمم الشرق والغرب معاً بألوان الفنون والمعارف الإنسانية. ولم يتراجع المسلمون في عصورهم المتأخرة إلا حين ركنوا إلى حياة التحَّزُب والصراعات البينية، ممِّا مكَّن أعداءهم من الانقضاض على وحدتهم وحضارتهم.

وفي المحور الوطني الأولويات للوطن، كإطار عام جامعٍ، تتجه إليه كل الجهود لرفد قواعد استقراره، وبناء أركان حضارته وازدهاره، وتركيم مكتسباته ومنجزاته، والذود عن حياضه، وانصهار كل الانتماءات داخل أسواره.

ومن أبرز منطلقات هذه القاعدة الوطنية الأساسية احترام مبادئ وأسس الوحدة الوطنية، بما يتماهى مع المصالح العمومية لأبناء الوطن، ويحفظ لهم - أو لجلهم على الأقل - حقوقهم في العمل وفق معايير الكفاءة والمهارة الذاتية والمكتسبة، وحقوقهم في الحياة الكريمة التي تحقق لهم تمام الكفاية، في إطارٍ من موازين العدل والقسط، وقِيم المساواة وتكافؤ الفرص.

ومن ثمَّ فإنَّ اختراق هذه الأولويات الوطنية عبر تغليب التَّعصب والعصبية القبلية أو الفئوية أو المناطقية، يُدخل الوطن في إشكالاتٍ واحتقاناتٍ عِدّة على صعيد حقوق الإنسان، وأحلامه في وطنه، بل وفي تداعيات سلبية على صعيد الأمن والاستقرار المجتمعي. ولعلَّ من أبرز الشواهد على هذا التَّداعي، والذي يمكن متابعته والتحقق منه ما تبثّه بعض المواقع الإلكترونية، والقنوات الفضائية، والمطبوعات الشعبية، من مواد وبرامج لا تخدم بالتأكيد أولويات الوطن والمواطنين.

عليه، يصبح من الضرورة بمكان العمل على ترشيد التعاطي بقضايا الانتماء القبلي ونحوها، بما يخدم الأهداف الوطنية، عبر البعد عن كل قولٍ أو فعلٍ أو احتفالٍ أو مهرجانٍ يصبُّ في اتجاه تأجيج نيران التَّعصب والنَّعرات القبلية والفئوية بين شرائح أبناء الوطن الواحد. وفي الاتجاه نفسه، فإنَّ الضرورة تفرض كذلك على متخذ القرار، أو المسؤول المتنفذ بأن لا يجعل من انتمائه المناطقي أوالفئوي أو القبلي معول هدمٍ للموازين والقِيم الوطنية، من خلال أخذ هذه الاعتبارات غير المتوازنة في ممارسته للعمل العام، لأنَّها قاعدة معيارية ضيقة، تتداخل في ثناياها عناصر الغبن والظلم، والفساد والإفساد، وإرهاصات ذلك: حقوق ضائعة، وأحلام محبطة، وحياة مضطربة.

من جهة أخرى فإنَّ الأخذ بأولويات الوطن سوف يدعم بشكلٍ مباشر جهود الإنماء والتنمية لتصل ثمراتها إلى كل مناطق وقرى وهجر الوطن، خاصَّة جهود توسيع منظومة الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية والتجهيزات الأساسية، وجهود توسيع نطاق البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تستهدف الحدّ من إشكالية البطالة، وإيجاد المزيد من فرص العمل في القطاعين العام والخاص، إضافة إلى تحسين مستويات الأجور في مواجهة الارتفاع المطّرد في تكاليف الحياة المعيشية، وأسعار المنتجات.

على أية حال ينبغي الإدراك بكل طمأنينة أنَّ الوطن بمعانيه يتجاوز مساحته الجغرافية، وحدوده السياسية، وموارده المتاحة، إلى كونه الحاضن الأساس لمنظومة الهوية الثقافية المجتمعية بمعطياتها الإنسانية والأخلاقية والمعرفية والحضارية والإبداعية.

هذه المعاني الغنية بهذه المعطيات لن تتعايش بالتأكيد مع فوضى التَّعصب والتَّحزّب، وحمية الجاهلية (وَهَل أنا إلاَّ مِن غَزِيَّةَ إن غَوَتْ غَوَيْت وإِن تَرْشُد غَزِيَّةُ أَرْشد) بتداعياتها على أمن الوطن واستقراره، ومسيرته التنموية والمعرفية.

من مأثور الحِكم: ولِلأَوْطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ يَدٌ سَلَفَتْ ودَيْنٌ مُسْتَحَقُّ.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد