يروى أن طالباً قصد أحد العلماء المعتبرين للتلقي عنه بالانتساب إلى حلقته العلمية، ومن الليل جاء الإمام بالماء فوضعه بجانبه، فلما أصبح، نظر الإمام في الماء فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله طالب علم لا يكون له ورد بالليل!. ثم قال: عد أدراجك لا تصلح لي. ورفض ضمه إلى مجلسه ومع طلبته..
وأذكر أنني في إحدى القاعات تحدثت عن غزوة بدر وعن المهاجرين والأنصار الذين أسسوا لهذا الدين مع رسولنا العظيم صلوات الله عليه، وفوجئت بعد مدة في ورقة إجابة أحد الطلبة أن صاحبها يترحم على النصارى قائلا: (رحم الله النصارى) وتكررت العبارة في ورقته مرات عديدة.. وحين نوهت إلى الخطأ دون ذكر اسم صاحبها، بادرني الطالب قائلاً: وأين الخطأ؟! وبعد أخذ ورد قصدت منه بيان ضعفه وعظيم خطئه لزملائه، تبين أن الطالب (النبيه) يعني الأنصار بقوله النصارى، وأنه لا يميز الأنصار من النصارى، وأنهما في ثقافته واحد.
تذكرت هذا وأنا أقرأ ما طرحه أخي الدكتور عبدالله بن ناصر الحمود عميد كلية الدعوة والإعلام الأسبق، في صحيفة الجزيرة عدد يوم الاثنين 09 شوال 1430، هـ العدد 13514 بعنوان: القبول في الكليات الشرعية.. وقفة مراجعة. والذي تحدث فيه عن قبول الطلاب في الكليات الشرعية، ونوعية المخرجات شكلاً ومضموناً، وغير ذلك مما جاء في طرحه المتميز، وإنني إذ أؤكد على طرح الدكتور الذي يخدم مصلحة هذا الدين والوطن ومصلحة العلم لأؤكد ومن خلال ممارستنا للعملية التعليمية في عدد من الكليات الشرعية التي تدفع سنوياً بالعشرات والمئات من الطلاب والطالبات للمجتمع، وتمنحهم الشهادات ليوجهوا أبناءنا وبناتنا في المدارس، وليصعدوا المنابر ويتولوا الإمامة، وليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وليظهروا على الفضائيات وصفحات الجرائد والمجلات للفتوى، وليتولوا القضاء وفك الخصومات..إلخ. أؤكد أن المتبع في منهجية القبول الحالي في جامعاتنا أمر لا يمكن أن يحقق آمال أمتنا، ولا طموحات شعوبنا، ولا يرتقي بنا أبداً إلى تحقيق المطلوب منا أفراداً وجماعات، وبالتالي ينبغي لنا أن نعيد النظر في شروط القبول وأعداد المقبولين، وأن نقر بأن هذا المنهج لا يمكن أن يكون مقبولاً بأية حال، فإن هذه المنهجية التي تهتم بالكم والعدد دون الكيف والنوعية إذا استمرت فإن أمتنا مهددة في عقيدة أبنائها وعباداتهم وسلوكهم واستقرارهم وأمنهم ووحدتهم الوطنية، فلا يمكن بأية حال أن تستقبل قاعاتنا الدراسية كل عام المئات بل الآلاف من النطيحة والموقوذة والمتردية، دون شرط أو قيد، ولا يمكن لمنابرنا أن تستقبل سنوياً المئات ممن يدعون بالموت والدمار والهلاك والزلازل واليتم والفقر والجوع للبشرية كلها مادامت مخالفة لنا في عقيدتنا، دون أن تميز بين معتد محارب، ومحايد، ومؤيد لقضايا أمتنا، ودون أن تستحضر منهج نبيها صلى الله عليه وسلم بالدعاء لكل ضال وكافر ومخالف بالهداية والرشاد وإرادة الخير له.. إننا في السنوات الأخيرة نعيش حالة مزرية مع شريحة من المنتسبين للكليات الشرعية ممن تطفلوا على العلم الشرعي، وهم جامدون في تفكيرهم، متمردون في سلوكهم، ينطقون بالكلمة لا يلقون لها بالاً، حظوظ النفس لديهم وافرة، في الوقت الذي نشاهد في الجانب الآخر ويشاهد العالم كله جهوداً رائعة وعظيمة تبذلها قياداتنا وقيادات الجامعات على الخصوص ودون استثناء، وفي كافة المجالات، والنجاحات بحمد الله تترى علينا في عدة مناحٍ، وإننا في جامعاتنا نعيش النجاح تلو النجاح، من حيث الإنجازات ومن حيث التوسع وفتح المزيد من الكليات، وعقد المزيد من الندوات والمؤتمرات، ومعالجة الموضوعات المهمة والاهتمام بالواقع وأمن البلاد والعباد وزرع الروح الوطنية والتأصيل للمستجدات في حياة الناس..وغير ذلك، والقائمون على الجامعات لا يزالون في عمل دؤوب وبكل ما أوتوا من قوة لتحقيق هذه الأغراض النبيلة.
ومع هذا فمن ينظر في واقعنا العملي سيقف على الكثير من المآسي في كافة الجوانب حتى شملت أمن الناس وأمن الأوطان، ناهيك عن الاختلاف الحاد في المعتقدات والقناعات والعبادات والموقف من القضايا المعاصرة وغير ذلك. ولا أعتقد أن أحداً ينكر بأن من أحد أعظم الأسباب الأساسية مخرجات التعليم والثقافة، ومنها مخرجات كلياتنا الشرعية بالتأكيد، فحين نرضى أن ندفع بالنابغين والمتفوقين من أبنائنا وبناتنا إلى الكليات العلمية (الخدماتية) مثل كلية الطب والهندسة والحاسوب والعلوم الإدارية والإعلام -مع يقيني بأهميتها- لغرض الاهتمام بصحة الناس وطعامهم وشرابهم وسكناهم وترفيههم، وفي المقابل ندفع بجملة من الموقوذة والمتردية من أبنائنا إلى الكليات الشرعية والعلوم الإنسانية، فإننا بهذا نرتكب جريمة في حقهم وفي حق ديننا ووطننا،فلا أحد يشك في أن أمر العقيدة أهم من أمر الصحة، وأن أمر العبادات أهم من أمر السكن، غير أننا عمليا نفعل العكس تماماً. المطلوب اختيار الأكفاء للكليات الشرعية ووضع ضوابط (صارمة وحازمة) للقبول فيها، وأن تشمل تلك الضوابط سيرة المتقدم وسمته وتفوقه العلمي والتزامه وتفكيره وانفتاحه وواقعيته، وأن يحمل المزيد من التزكيات وأن يجتاز عدة مقابلات ومن ثم يتشرف بالانتساب للكلية الشرعية، وهنا سنكون مطمئنين بأن الذين سيتولون قيادتنا الدينية في المستقبل باعتبارهم مراجع دينية هم أناس عقلاء متميزون على قدر عظيم من المسؤولية، مؤتمنون على عقائدنا ببيان الصحيحة منها والتنبيه على الانحرافات وعدم إطلاق الأحكام جزافا كالتكفير والتفسيق والتبديع والتجريم وإخراج الناس من دينهم لمجرد معصية، مؤتمنون على عباداتنا كالصلاة والصيام والزكاة ولن نجد حينئذٍ هذا التباين في الفتاوى بين مجيز وقائل بالاستحباب وآخر قائل بالتحريم في المسألة الواحدة، مؤتمنون على أموالنا في الإرث والقضاء والتجارة.. مؤتمنون على قضايانا الاجتماعية كالزواج والطلاق وغيرها..
أعتقد جازما أن مسلك أسلافنا رضوان الله عليهم هو الصحيح، وهو اختيار النابغين والمتفوقين والصادقين للدراسات الشرعية، وهو الذي ينبغي أن نسلكه في كلياتنا الشرعية اليوم، قبل أن يميع الدين وتخترق المنابر والمحاريب بأناس جهلة يفتون من غير علم، وما أجمل ما قاله أحد شيوخنا الأجلاء: اختر من أبنائك أكثرهم نباهة وعقلا وذكاءً وادفعه للدراسة الشرعية.لينفع الأمة، وليشارك في تجديد هذا الدين، وليكون صدقة جارية.
وفي ختام هذه المقالة أضع بين يدي القائمين على تعليمنا ما يلي:
1 - وضع ضوابط صارمة للقبول في الكليات والمعاهد الشرعية.
2 - التركيز عند القبول على القدرات الفكرية والذهنية والعقلية للمتقدم، إضافة إلى قدراته في حفظ النصوص.
3 - الاعتبار للكيف عند القبول وعدم الالتفات إلى الكم.
4 - إعادة النظر في المناهج الدراسية في الكليات الشرعية بقصد تجديدها وتكثيفها وإضافة المزيد من العلوم الضرورية والأساسية لمنحها القوة والأصالة.
5 - منح المزيد من الاهتمام باللغة العربية علم (الآلة) على الخصوص وبعلم (المنطق).
6 - إبعاد الضعفاء ومن لا يرتقون إلى المستوى اللائق بالشريعة، وسن قانون يجيز تحويلهم إلى كلية أخرى عند بيان عدم صلاحيته للدراسات الشرعية.
7 - زيادة سنوات الدراسة في الكليات الشرعية إلى خمس سنوات أو أكثر. واشتراط نسبة حضور لدروس العلماء المعتبرين.
8 - إجراء اختبارات قدرات وتحصيل (صارمة) للمتخرجين وربط شهادة التخرج باجتياز هذه الاختبارات.
9 - إلزام المتخرجين الذين هم دون المستوى المطلوب للعمل في المرافق العامة والوظائف الإدارية وعدم تمكينهم من تولي الأعمال التعليمية والتوجيهية كالتدريس والقضاء والإمامة والخطابة..
10 - منح المزيد من المزايا للمتخرجين في الكليات الشرعية مالية ووظيفية واجتماعية. وفي الختام..أعتقد جازما أننا بوضع استراتيجية تشمل على مثل هذه الإجراءات سنجنب أمتنا الكثير من المآسي الحاصلة، وسنستطيع بعون الله تعالى الركون إلى شيوخ وقضاة وأئمة المستقبل بأمان واطمئنان..وسنعيش واقعاً آمناً خالياً من التشنجات والخلافات والتحرزبات.. والله من وراء القصد
safahkki@hotmail.com