في الفكر (الحر) هناك مراحل كثيرة متدرجة ما بين الأبيض والأسود، (الفكر) ليس طرفي نقيض، ليس هناك مجال لأن تقول (مع - ضد) في قضية من القضايا على شكل مطلق، بل مساحات شاسعة شسوع العقل الرحب الذي خلقه الله ليفكر ويتدبر.
وفي ثورة العقل على كل غير معقول اتجاه نحو الرقي للأعلى، كما انطلقت مراحل الحضارة من الكثيف إلى الرهيف، من الأهرام إلى النقوش على الجدران، إلى اختزال كل ما يمكن اختزاله لإعطاء العقل الفرصة لاكتشاف أسرار الحروف ما بين المعاني والمباني، ويبقى هناك دور رئيس يقوم به المتلقي الذي أصبح مشاركاً أساسياً في أي عملية إبداعية.
ومن صيرورة الحياة وتاريخها الممتد حضارياً صعوداً، وهبوطاً في التاريخ، وجدت أنه لا بد أن تكون مثيراً للجدل، أو لا تكن من البداية، ذلك حين تكتب، أو تقول رأيك، لا تعلن انحيازك الأعمى لطرف على حساب آخر، من دون فهم أو وعي، مثل خفافيش الإنترنت الذين يتقيأون أمراضهم على صفحاته سباباً وهجوماً على من تجرأ وفكر ضد ما يرون أو يعتقدون، فما أمر الشكوى التي تحمل أنيناً غير مسموع، بسبب جهل الجاهل الذي لا يعي، ويستمد معلوماته من (سمعت) و(بيقلك)، لكنها تبقى شكوى (من - ضد).
وحين تتحدث لا بد أن تعلن رفضك لكل ما لا يعجبك، حرك كل الثوابت، ناقشها، حللها، بغير تجرؤ على (المطلق)، اسأل كيفما تشاء، ولا تستمع لمن يقول لك هذا محظور الحديث فيه، قل له إنني مأمور بالتفكر والتدبر، لأن الله خلق لنا العقل لنفكر لا للتلقي فقط، ربما يسمونك متبجحاً، لا بأس، ويطلقون عليك مختلف المسميات التي لا تحبها، لا بأس أيضاً، المهم أن تقول رأيك صراحة، هذا أفضل من أن تجامل أو تنافق، أو تدعي معرفة وأنت جاهل، ولا تلتفت إلى من يتهمك بأنك تحارب طواحين الهواء مثل (دون كيشوت)، أو أنهم سيحكمون عليك بالعذاب الأزلي مثل بطل أسطورة (سيزيف) الذي كُتب عليه أن يرفع الصخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، ثم تسقط من جديد إلى الأسفل، وعليه أن يعيد الصخرة مرة بعد أخرى، وإلى الأبد.
كن (أنت أنت) لا أحد غيرك، مهما حاول الضعفاء أن يثنوك عن مواقفك، المهم أن هذا الموقف لا يكون مبنياً على جهل فوق جهل، وعلم الصغار كذلك ألا يكذبوا أو يتزلفوا لمن هم أعلى رتبة، ومهما كانت النتائج يكفي أنك حين تنظر إلى نفسك في المرآة تحترمها، وتحترم رأسك التي لا بد ألا تنحني أبداً لغير خالقها.
أزمات فكرية كثيرة أثارها الجهلاء من الناس الذين يستمعون إلى غيرهم، أو يبيعون رؤوسهم الفارغة لغيرهم من الحاقدين على (آخر)، ومن مبدأ سمعت وقالوا، ويقولون تأتي كل المشكلات، كم من الضحايا الذين ذهبوا ضحية هذه المشافهات المعلوماتية الخاطئة الكاذبة أحياناً (المدعية) كثيراً، التي لا ترى في الفكر على إطلاقه إلا ثنائية ممقوتة (مع - ضد).
الأنبياء حوربوا لأنهم أتوا بالجديد، رسالة سماوية، فكر جديد، روح جديدة تمحو كل طيش أو حنق، أو أي من المسميات الجاهلية التي يرسخها الفكر المنحرف أو المعوج أو الذي أسميه من دون تراجع (التفكر الجاهل)، فهذا أقل من أن يسمى فكراً وهو الدال على حراك ما معرفي.
كثيرون جداً دفعوا أرواحهم ثمناً لكلمتي (أحد أحد)، قبل أن تشدد أمريكا التفتيش على المسلمين في مطاراتها بسبب ما قام به بعضهم من تشويه الصورة، بسبب التمسك بطرفي النقيض (مع في مقابل ضد)، أو المبدأ القائل من ليس معي فهو ضدي، وهذا مختلف تماماً عن الحكمة التي خلق الله تعدد اللغات والأشكال والألوان في الأرض، ولو شاء الله لجعل العالم كله لوناً واحداً، فكراً واحداً، ديناً واحداً، لكنه ترك لنا التعدد لنعمل عقولنا، وبعد ذلك يكون الاختيار حراً مطلقاً.. وإذا كان الله خلق التعدد بين خلقه، فهل نرفضه نحن بجهلنا لنسيد لوناً واحداً من ألوان الفكر، قبول الآخر من أهم المبادئ التي أرساها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ومن منطلق أن تكون أنت أنت لا أحد غيرك، أعتقد أنه لا بأس أبداً أن تتراجع عن فكرتك إذا رأيت عكسها هو الصحيح والأدق، فكثير من العقلاء فعل ذلك لأنه صادق منذ البداية، يبتغي الحقيقة المطلقة، لا الجدل من أجل تسييد رأيه هو بحكم أنه الأصح في صورة من صور الإقصاء للآخر.