Al Jazirah NewsPaper Wednesday  24/03/2010 G Issue 13691
الاربعاء 08 ربيع الثاني 1431   العدد  13691
 

لك الله يا أبا عبد الرحمن

 

ماذا عسانا نقول ونحن نتلقى نبأ وفاة زميلنا وعزيزنا وصديقنا وحبيبنا، فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد الرحمن الدخيل الذي وافاه أجله المقدر ظهر يوم الأربعاء الموافق 5-2-1431هـ وذلك إثر حادث مروري تعرض له، لا نملك ونحن نستقبل هذا النبأ المحزن إلا الصبر والدعاء له بالرحمة والمغفرة وأن يلهم أمه وأهله واخوته وأطفاله الصغار الصبر والسلوان، وأن يجبر مصابنا ومصابهم في هذه الفجيعة المحزنة.

لقد فجعت بالخبر واندهشت، فقد كان آخر لقاء لي معه قبل أسبوعين في استراحته العامرة، وآخر مكالمة قبل أيام فقلت سبحان الله!

أي دنيا هذه التي نعيشها؟ هاهو أبو عبد الرحمن يذهب من بيننا، شاب موفور الصحة والنشاط، لم يشك من علة ولا مرض، خطفته يد المنون بعد انتهائه من عمله في لجنة الامتحان ولم يدر أنه بعد لحظات سيواجه امتحان الآخرة، حيث وقع له هذا الحادث نسأل الله له الثبات والمغفرة لا إله إلا الله لولا التصبر والصبر وموعود الله بالأجر، ولولا حرمة التسخط ورد القضاء، لكان لنا مع حبيبنا وزميلنا الشيخ صالح شأن آخر.

ولكن لا نقول إلا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } وإن العين لتدمع والقلب ليحزن وإنا على فراقك يا أبا عبد الرحمن لمحزونون.

أي لوعة بالقلب يحدثها فراق صديق محب.

أي شدة ونصب يجدها من فقد صديقاً مخلصاً..

أي حزن يسكن القلب، وأي نار يؤججها الفراق..

لك الله يا أبا عبد الرحمن ذهبت وأنت شاب طري العود، ذهبت عنا بعيداً ولن تعود..

لا نقول ذلك تسخطاً وتذمراً بل لله الحكمة التامة، والمشيئة النافذة، لا راد لما قضاه، ولا معقب لحكمه، فنسأل الله أن يبدلك عن شبابك نعيماً وحبوراً، وأنساً في قبرك وسروراً.

عرفت أخي وزميلي - الدكتور صالح - منذ سنين، تزيد على العشرين حيث تزاملنا أنا وإياه في الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، في أحد أقسامها العلمية، هو قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة.

نهلنا سوياً من أودية المدينة العلمية، وشربنا من أيدي علمائها كؤوساً روية..

عرفته - رحمه الله - محباً للعلم والعلماء مثنياً على مشايخه، مبجلاً لهم، عرفته تلميذاً مستفيداً، قابل علماء أجلاء أخذ عنهم، واستفاد منهم علوماً شتى، فمن أخذ عنه شيخنا الشيخ عبد الله الغنيمان أخذ عنه في المدينة، وفي القصيم، وكذا الشيخ حماد الأنصاري - رحمه الله - والشيخ محمد أمان - رحمه الله - والشيخ عبد الكريم الأثري - رحمه الله - وكذا الشيخ الدكتور صالح العبود رئيس الجامعة الإسلامية سابقاً، وفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن سعيد السحيمي رئيس قسم العقيدة في الجامعة الإسلامية سابقاً، والشيخ - عبد المحسن العباد، وكل هؤلاء قابلهم واستفاد منهم وهم من تلاميذ الشيخ ابن باز - رحمه الله -. كما نهل واستفاد من علامة القصيم الشيخ محمد بن صالح العثيمين، واستفاد من كتبه، خاصة كتب العقيدة، فلا غرو بعد ذلك أن يكون مستمسكاً بالعقيدة الصحيحة، حافظاً قلبه عن شبهات تبث هنا وهناك، كيف لا، وهو من رضع لبانها، وأخذها غضة طرية عن علمائها، فهو ابن بجدتها وراكب صهوتها، رحمك الله أبا عبد الرحمن، وأسكنك فسيح الجنان.

أفنيت سنينك في خدمة دينك، مشوارك العلمي شاهد بذلك.

فكلية الشريعة، والدراسات العليا، ثم مرحلة الماجستير، فالدكتوراه، كلها تخبر عن محبتك، العلم علم هو موروث نبيك - صلى الله عليه وسلم - فمدارستك له تسبيح، وتعلمك له عبادة، والبحث عن مسائله وأحكامه جهاد في سبيل الله.

فأسأل الله جل جلاله أن لا يحرمك أجر ما سعيت وأن يغفر الله لك ما فيه قصرت وتوانيت.

عرفت الشيخ صالحاً مصلياً صائماً، محباً للقرآن دائماً، عرفته باراً بأمه، قائماً بشؤونها، عرفتك محباً لنبيك - صلى الله عليه وسلم - مقتفياً أثره، متبعاً لسنته، معظماً لصحابته، فأسأل الله أن يحشرك معهم فقد قال صلى الله عليه وسلم (المرء مع من أحب).

عرفته محباً للكرم والكرماء، فكم أتحفنا بعائدته، وأكلنا من أصناف مائدته.

عرفتك أبا عبد الرحمن محباً للطرفة والدعابة، بروح شفافة خلابة.

كما ضمتنا معه مجالس في ربى المدينة وحرارها، وكم شممنا من سكبها(1) وعرارها(1) يعجبك حديثه ولا يمله جليسه، طالما أتحفنا بقصصه الطريفة، وأحاديثه الظريفة.

(فرحمه الله رحمة واسعة وتقبله عنده من الشهداء)(2).

فعزاؤنا فيك أبا عبد الرحمن أن الله كتب الموت على كل حي - قال الله تعالى - {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} عزاؤنا فيك أن الله لم يكتب الخلد لأحد من الخلق.

عزاؤنا فيك أن الله وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجراً عظيماً، وأنت إن شاء الله نحسبك من هؤلاء. عزاؤنا فيك غراسك الذي غرست، علمك الذي ورثت، تجده إن شاء الله أحوج ما تكون إليه.

لقد زرعت طلاباً هم الآن دعاة هدى وخير، طالماً علمتهم العقيدة، وأبنت لهم السنة، وغرست فيهم الإيمان فأجرك على الله إن شاء الله، كم من الألسن لك بالدعاء ناطقة، وكم من قلوب بالثناء عليك صادقة.

أحصاه الله ونسوه فهنيئاً لك هذا الغرس، فقد أثمر وأينع وحان لك قطافه.

تجده في قبرك أحوج ما تكون إليه فإلى جنة الخلد أبا عبد الرحمن وإلى الفردوس الأعلى وما ذلك على الله بعزيز، وبعد.. فعزائي إلى أمه الفاضلة، وزوجه الصابرة، وأولاده الصغار، واخوته وأخواته، وعائلته الكريمة أحسن الله عزاءكم، وعظم الله أجركم، وغفر الله لميتكم.

لكم الله جميعاً فهو مولاكم ونصيركم نعم المولى ونعم النصير، وهو أرحم بكم من كل أحد فما ابتلاكم لا ليراكم وما أصابكم إلا ليرفع درجاتكم فثقوا بربكم وعليه توكلوا فمن توكل على الله كفاه، الزموا ذكره، وأحسنوا الظن به، وأنزلوا حاجاتكم ببابه، فهو فارج الكربات وكاشف الملمات، إليه المفزع والملتجأ فمن أنزل حاجته به قضاها ولو عظمت وضاق بها قضاها، فمن الذي رفع يديه فلم يعطه، ومن الذي سكب أدمعه فلم يرحمه، سبحانه هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

وعزائي موصول إلى مشايخه وزملائه وطلابه، فحقه عليكم الدعاء وذكر محاسنه، والتجاوز عن هفواته، فجل من لا يهفو وإلهكم يصفح ويعفو.

وبعد فهذا ما أعرفه عن أخي وصديقي وزميلي فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد الرحمن الدخيل ولا أزكي على الله أحداً ولكن هكذا أحسبه وأظنه والله يغفر لنا وله ويتجاوز عنه بمنه وفضله.

وقبل الختام جادت قريحتي المتواضعة بأبيات قلتها عفو الخاطر، مضمخة بشذى الورد العاطر، أعتصرها من ذهني المكدود هول المصيبة وفجأة الخبر، {ِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

خبر أفت مني الأضلعا

وأسخن عيني وسح الأدمعا

إذ قيل مات الدخيل صالح

وطوى المنون صحيفة واستودعا

هو الصديق الظريف النابه

وهو المحب الكريم إذا دعا

وهو الصبور الوقور إذا بدا

منهم عجول بالكلام أقنعا

ندي سخي دائماً يتهلل

كريم الكف إن جئته متبرعا

يقارع أهل الحجى متواضعاً

إذا صك المنازل أوجعا

جسور في الكلام مؤدب

وإن تكلم في المحافل أسمعا

صريح في الكريهة لا يحابي

متى انجفل شيخ أوكعا

كم رحلة للحج يقصد ربه

متى طاف بالبيت أوسعى

كم جلسة للعلم يزداد تقى

وينير درباً حازماً متورعا

ثابت في المجامع ذو تقى

بليغ الحجى دائماً متضرعا

فألهم إلهي الأم والاخوانا

صبراً يضمد تلك الأوجعا

رباه فاغفر له وأحلّه

نزل الجنان ورحبا أوسعا

صلى الإله على النبي محمد

وصحبه والتابعين أجمعا

(1) نباتات لهما رائحة زكية.

(2) الشيخ ابن باز يفتي أن من مات بحادث فهو من الشهداء.

د. صالح بن علي المحسن

جامعة القصيم - قسم العقيدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد