التقدُّم العلمي المتسارع والاستخدام المتسع لنظام التجارة أديا إلى تغييرات واسعة النطاق في حياتنا الخاصة، وبيئات أعمالنا العامة، كما أديا إلى تغير خطير في أشكال العلاقات القائمة في مجتمعاتنا.. ونتج من كل ذلك تبدلات واسعة تستوجب أن نبحث عن المفهومات والآليات التي تساعدنا على تأهيل أنفسنا للتعامل مع المعطيات الجديدة.
إنَّ الإنسان في الرؤية الإسلامية هو مركز الكون، ودليل ذلك تسخير الله - جل وعلا - له كل ما يمكن أن يصل إليه، كما قال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}، وإذا نظرنا في نصوص الكتاب والسُّنَّة وجدنا أن السواد الأعظم منها يدور حول مسائل النهوض بالإنسان وترقية حاله، وتهيئة الأجواء والبيئات التي تساعده على ذلك؛ ما يدل على أن المنهج الرباني الأقوم يستهدف الإنسان على نحو جوهري، فإذا صلح أمكنه أن يصلح كل ما حوله، وإذا فسد أفسد كل ما حوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}، على عكس الاتجاهات العامة للحضارة الغربية؛ حيث الإنسان تابع وخادم للقوى الكبرى التي تسير حركة الاقتصاد العالمي، ولكن بدأت في السنوات الأخيرة ملامح توجُّه جديد في مجال الإدارة والتدريب وتنمية الشخصية والقوى البشرية؛ حيث بدأ علماء هذه المجالات في الغرب ينجذبون شيئاً فشيئاً نحو الرؤية الإسلامية، لكن تنقصهم - مع الأسف - الثوابت والمرجعيات الأخلاقية والعقدية.
هناك اليوم شعور عام بأن إرادة الإنسان آخذة في الضعف والتدهور بسبب ما أُحيط به من المنتجات المادية، وبسبب ما سُلِّط عليه من المغريات، وما أُتيح له من الشهوات والملذات؛ ما يستدعي وقفة جادة حيال هذه المسألة؛ لعلنا نحاول استرجاع ما فقدناه من الإرادة الصلبة والهمة العالية وقصد الخير، وإلا فإن النتائج قد تكون مروعة.
إنَّ أمة الإسلام لا تملك الكثير من الإمكانات المادية والثروات، وما تملكه يتم تهميشه على نحو مستمر بسبب التقدُّم العلمي والتقني، الذي ليس منه في العالم الإسلامي سوى القليل، لكنها تملك شيئين مهمين: المنهج الرباني الأقوم الذي يقدِّم لنا إرشادات الحركة، ثم الثروة المتزايدة القوة، وهذه الأعداد المتزايدة من البشر، التي يمكن أن تصبح عامل رجحان وغلبة في الموازين العالمية إذا أُحسن توجيهها وتدريبها، وإذا قصرنا في ذلك يمكن أن تتحول إلى عبء، كجيش لم يدرب ولم يسلح ولم يحصن؛ فأصبح هدفاً سهلاً لنيران العدو. وإذا استطعنا أن نشيع في أمة الإسلام ثقافة تربية الذات وشحذ الهمم والبرمجة الشخصية فإننا نكون بذلك قد أوجدنا الأساس الضروري لتفعيل الطاقات الإسلامية الهائلة والهاجعة في الوقت ذاته.
لا بد من التذكير هنا بأن النمو المادي يظل محدوداً، أما النمو العقلي والروحي فإنه رحب الآفاق، ولا يلغي أي محددات توقفه عند أي حد؛ فالكمال يظل مرفوفاً خارج الاستحواذ، والوصول إليه ليس أكثر من مقاربته ومناهزته، وهذا يعني أن تنمية الشخصية يمكن أن يستمر في الوقت الذي يتأزم فيه كثير من النشاطات الصناعية والمادية.
إن العولمة بآليتها الرهيبة تفرض معايير جديدة للحصول على العيش الكريم؛ حيث إنه من الآن فصاعدا لن ينفع أي شيء عادي، وسيكون المستقبل للأشياء المتفوقة والباهرة، وهذا كله يحتاج منا إلى أن نتعلم من جديد كيف نتشبث بمبادئنا وأصولنا، في الوقت الذي نطور فيه إمكاناتنا ومهاراتنا، وأن نتعلم كيف نكون دائماً في الطليعة الخيرة والمنتجة.
ولا بد من القول في النهاية إننا بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أن ندعم الجانب الاجتماعي من ذواتنا؛ حيث تمارس العولمة أيضاً عملية هلع منتظمة وشاملة؛ فهي تخلع الفرد من الأسرة، والأسرة من المجتمع، والمجتمع من أمته الكبرى؛ لذا فإننا نشاهد اليوم الكثير من مظاهر القطعية الاجتماعية، والكثير من أشكال الجفاء بين الأرحام، كما أن معاني الصداقة الحقيقية تشهد نوعاً من الضمور.
إن العودة إلى الذات تعني نقد الذات، وهو أمر شاق على النفوس؛ حيث يعني أن يقوم المرء بدور الحجر والنحات معاً، ولكن ليس هناك أي سبيل آخر.. والله ولي التوفيق.