Al Jazirah NewsPaper Monday  05/04/2010 G Issue 13703
الأثنين 20 ربيع الثاني 1431   العدد  13703
 
إلى الأمام
بدايات الحداثة وطاحون أبو حواس
د. جاسر عبد الله الحربش

 

كان يا ما كان قبل ما يزيد على نصف قرن، كانت قريتي تقبع وادعةً تحت سفح الدرع العربي، تتعانق بيوتها الطينية وتتحاضن، وتتطلع بإحدى عينيها إلى الفضاء الرحب طمعاً في التعليم والكهرباء والخدمات العلاجية وتنظر بالعين الأخرى إلى موضع القدم خوف الوقوع في بدع وضلالات آخر الزمان. كانت قريتي تعيش حالة انفصام بين الرغبة في التقدم إلى الأمام وغريزة الثبات في نفس المكان خوفاً من حصول مالا تحمد عقباه. إنني ما زلت أذكر ذلك اليوم المشهود من أيام الخضات الحضارية حين أحضر رجل يدعى ابن خليفة طاحوناً ميكانيكياً على شاحنة استطاعت بالكاد أن تتسلل عبر أزقة القرية إلى حيث يجب أن ينزل ذلك الوحش المعدني لكي يبدأ بمهام الطحن والجرش للرس وما جاورها من الحاضرة والبادية. ليتكم تتخيلون كيف كانت الجماهير تدور حول ذلك الطاحون، تتلمس عجلاته المعدنية الملساء وتفرك سيره العريض وتنقر على مخزن الوقود بإعجاب شديد لإدراكهم أن المسألة لم يعد فيها برسيم ولا تبن وحشيش. بعد أيام تم تثبيت الطاحون في منزل قديم مجاور لبيت شيخ حاد المزاج يسمى أبو حواس. بدأت نقاشات مستفيضة حول ما قد ينتفع به أهل الرس في أمور الدقيق والجريش وما قد تجلبه تلك البدعة من الأمور التي يصعب التكهن بها. انقسم أهل الرس بين المؤيدين والمترددين وفئة الرافضين يترأسهم المتضرر الأكبر أبو حواس الخائف على جدران بيته وهدوء نومه وعلى السلم الاجتماعي في جواره، ومعه بعض المستفيدين من الطحن اليدوي للموسرين مقابل أجر من عصور ما قبل الطاحون.

أخيراً بت قاضي الرس رحمه الله لصالح الطاحون مدركاً بنفاذ بصيرته ما سوف يجلبه من التيسير لأهل الرس وما جاورها من القرى والبلدات.

وما هي إلا سنة أو نحوها حتى أصبح المكان بجوار بيت أبو حواس لا يتسع لأكياس الزبائن وزنابيلهم فقرر ابن خليفة الانتقال بطاحونه إلى مكان أوسع. الآن تخيلوا ماذا حدث! انعقدت محكمة الرس مرة أخرى لترى رأيها هذه المرة في مسألة انتقال الطاحون. أبو حواس وجيران الطاحون كلهم أصبحوا مدمنين على الضجيج ولا يستطيعون النوم إلا على أنغامه الرتيبة. في مرافعته الجديدة أمام القاضي قال أبو حواس: يا شيخ جزاك الله خيراً أجبرتني في البداية على تقبل الطاحون لمصلحة المسلمين فقضيت مدة طويلة لا استطيع النوم من شدة الضجيج. الآن يا شيخ تعودت على صوت الطاحون ولا استطيع النوم بدونه. يا شيخ جزاك الله خيراً ضاعت مصلحتي في الحالتين إذا سمحت لابن خليفة في نقل الطاحون.

ما هي الخلاصة من هذه القصة الحقيقية التي تحكي قصة الحداثة بين القبول والممانعة ثم التعود؟. بسبب آلة مستوردة لطحن القمح انقسم المجتمع إلى أحزاب. القسم الممانع كان يحتوي على المتضررين من الآلة البدعة، مع بعض المتضامنين معهم خوفاً مما قد تسببه المستحدثات من البدع في المجتمع. الطرف الآخر كان ينظر إلى المصلحة العامة التي لا تتعارض مع ما هو معلوم من الشرع بالضرورة.

هكذا يسير المجرى العام للحضارة والتحديث. في البداية تكون الممانعة لأن الناس عموماً يعادون ما يجهلون والجاهل يبقى عدواً لمصلحته حتى يتضح له جهله وفي النهاية تنتصر المصلحة العامة ويسير الركب إلى الأمام.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد