Al Jazirah NewsPaper Wednesday  07/04/2010 G Issue 13705
الاربعاء 22 ربيع الثاني 1431   العدد  13705
 

سياحة في بيت
حب الوطن
عبد العزيز القاضي

 

دار نحبه حب بريام وإحساس

وحب الوطن يرجح بحب القبيله

علي القري

والريام شدة الحنان والعطف والملازمة بتلذذ.. والبيت من قصيدة طويلة مدح بها الشاعر مدينته, وشرح فيها مدى محبة أهلها لها.. ومطلعها:

على عنيزة صابني تقل وسواس

ما غير أهذري به ولا بيدي حيله

دار لها بقلوبنا مثل الأجراس

تدقّ مع رقي النِّفَسْ واتحويله

والداعي إلى السياحة في هذا البيت هو الفكرة العميقة التي تزيت بزي المثل في الشطر الثاني.. فعلى الرغم من أن البيت قيل قبل ما يقارب نصف قرن, إلا أنه يطرح قضية مهمة هي حديث الساعة اليوم, وهكذا يكون الشعراء الملهمون, والمفكرون الموهوبون؛ فهم يسبقون بأفكارهم عصورهم, ويطرحون قضايا استشرافية للمستقبل بعد أن ينعموا النظر فيما وراء الحاضر, ويتأملوا التطورات المتوقعة للأحداث..

الوطن القبيلة.. ثنائية متأزمة تشكل اختيارين متنافرين, وتطرح إشكالية فكرية تشل أذهان العامة وتبقيها في دائرة الصراع بين الماضي التعيس, والحاضر والمستقبل المختلف, وأعني بالتعيس الحياة الجاهلية التي كانت سائدة حتى وقت قريب؛ فالقبيلة بماضيها وأغلالها تكبّل عقل الضعيف, وتحبسه في سجن الأنا التي تحوّله إلى ظاهرة صوتية تقوم على اجترار مفاخر لا ميزة لها إلا في عقول السذّج!

ولو تأمل المتفاخر بقبيلته تأمُّل الواعي المفكر في جدوى هذا التفاخر, لوجد أن الآخرين مثله يتفاخرون بقبائلهم أيضاً (وكلٍّ عطاه الله من هبة الريح!), وهذا يعني أن عقدة التفوق التي تقوم عليها المفاخرات القبلية ما هي إلا فكرة ساذجة تُعمي معتقدها عن مكتسبات الآخرين التي تماثل أو تفوق مكتسباته, وتحصر عقله في تعاطي هذه النزعة الشيطانية التي تعشش في أفكار المتفاخرين الذين يؤمنون غاية الإيمان بنزعة التفوق, وهم في أغلب الأحوال من العامة المنغلقة, التي نشأت على ثقافة واحدة, وغالباً ما تكون ثقافة بدائية. والثقافة المنفتحة الواعية لا تنال بالشهادات ولا تكون بكثرة القراءات التي لا تتجاوز العين واللسان, ولا تظهر آثارها على الفكر والسلوك.. بل تكون بإطالة التأمل في الكون والحياة, والتوصل إلى الغاية التي من أجلها خُلق الإنسان.. ومن يُطل التأمل في هذا الشأن يدرك بلا شك أن الله خلق البشر مختلفين في كل شيء, وأن هذا الاختلاف هو الذي يعمر الكون, ويقود إلى السير في طريق التقدم.. وليس التعصب والتحزب لفكرة ذهنية لا تقوم على أساس عملي يقدم خدمة للمجتمع الصغير أو الكبير.

القبيلة لا تصنع الحضارة.. هذه حقيقة لا أظن أن هناك من يخالفها, ولا تصنع الحضارة؛ لأنها معاكسة لحكمة الاختلاف, ولأنها تقوم على قانون الفرد الذي يحكم الجمع. ودستور القبيلة دستور يشبه النظام العسكري في تراتبية الصلاحيات؛ فالأصغر يخضع لمَن هو أكبر منه, وهكذا يتدرج الأمر حتى يصل إلى الرقم (1) الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون! والنظام القبلي يكرّس أسوأ أشكال الفساد الإداري؛ لأنه يقوم على المحسوبيات, ومؤكد أن المجتمع الذي يقوم على فكر فرد مجتمع متخلف في كل شيء!

والقبيلة، وإن كبرت وتعددت أفخاذها وبطونها وأفرادها, لا تعبر عن التعدد الفكري والثقافي؛ لأنها تنطلق من فكرة واحدة وثقافة واحدة.. ولذلك ظلت المجتمعات التي يحكمها سلطان القبيلة مجتمعات ضعيفة, لم تستطع مواكبة القفزات النهضوية التي تشهدها البلاد؛ لأنها حبست نفسها في صراعات التفوق العنصرية بينما الآخرون الأقربون يصنعون نهضة البلد, ويسعون جاهدين إلى اللحاق بقطار الحضارة السريع, والآخرون الأبعدون يغزون الفضاء, ويصنعون كل شيء, بما في ذلك الأسلحة الحديثة التي يسيطرون بها على كل سكان الكرة الأرضية.. قال محمد ابن حسن:

راح العراق وراح قبله فلسطين

الغرب منّا والمريكان منّا

من عام ألف وتسعميّة وخمسين

وعريبيا ما غير حنّا وحنّا!

الوطنية هذه الأيام تتعرض لمعوقات قوية تحد من انطلاقتها التي تقود نحو الازدهار ومسايرة ركب الحضارة.. معوقات يدعمها أكثر ما يدعمها إعلام الأدب الشعبي, الذي يؤجج غرائز الانتماء القبلي, ويشعل فتيل العصبية الجاهلية, والهدف - إن أحسنّا الظن! - مادي بحت.. فصارت الوطنية في ملعب القنوات الفضائية:

كعصفورة في كف طفل يهينها

تذوق مرار الموت والطفل يلعب!

الانتماء للوطن والتعصب للقبيلة ضدان لا يجتمعان, فإما الولاء للوطن, وإما التعصب للقبيلة.. والملاحظ أن المتعصبين للقبيلة ظلوا يراوحون أماكنهم, ويرددون: (حنّا.. وحنّا)!

أظن جازماً أن التعصب للقبيلة من أشد أنواع المخدرات فتكاً؛ لذلك أطالب من هذا المنبر بإدراج (التعصب القبلي) في قائمة المخدرات, ومعاقبة متعاطيها بنفس العقوبات التي يعاقب بها متعاطي المخدر ومهربه ومروّجه أيضاً!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد