Al Jazirah NewsPaper Monday  19/04/2010 G Issue 13717
الأثنين 05 جمادى الأول 1431   العدد  13717
 
إلى الأمام
اغتراب العربية في دارها (3 من 3)
د. جاسر عبد الله الحربش

 

استكمالا للحلقتين السابقتين أنتقل بكم إلى المؤشر الرابع على الاغتراب التدريجي للعربية وهو تسلل المفردات الإنجليزية بكثافة إلى العربية المحكية و(المكتوبة أحيانا) لكل الطبقات والأعمار. لا أظنه بالأمر الخفي أننا جميعا نطعم دردشاتنا بكلمات أجنبية كثيرة وأحيانا بجمل كاملة إما للتدليل على التمكن من الإنجليزية أو للاعتقاد بالتميز التمدني، وفي كثير من الأحيان لأن الكلمة أو المصطلح العربي المناسب غائب عن القاموس المعرفي الشخصي مؤقتا أو نهائيا. ليس المهم في ذلك هو فقط النقص في الحصيلة اللغوية ولكن الانتقاص من اللغة الأم لدرجة الاستعاضة عن المفردة العربية بأخرى أجنبية وإهمال البحث عن المفقودة في أقرب فرصة والاستمرار في التفلت من الواجب الشخصي المعرفي تجاه اللغة الأم. إنني أقترح بما أننا نشمت من يعطس بقولنا يرحمك الله أن نستصدر مرسوما أو فتوى على جاري العادة بطلب الهداية بصوت عالي لمن يستعمل في حديثه مفردة أجنبية كأن نصرخ فيه مثلا: استغفر هداك الله وذلك من باب الانتصار للغتنا المضطهدة.

أخيرا أصل إلى مربط الفرس في مؤشرات الاغتراب اللغوي وهو الانهيار العلمي شبه الكامل للغة العربية والذي هو مؤشر أوضح على دخولنا مرحلة الخطر الحضاري الأكبر، أي موت اللغة العلمية الفعلي وبقائها فقط لشؤون العبادات والمناسبات الشعبية. نحن هنا أمام انقسام آراء حقيقي لا يدركه عامة الناس حول جدوى الاحتفاظ باللغة وتنشيطها وجعلها اللغة الإلزامية للتعليم العالي والبحث العلمي أو استبدال اللغة الإنجليزية بها في هذه المجالات رضوخا لواقع الحال وتوفير الجهد والوقت والمال المتوجب تقديمها لإنقاذ لغتنا من الموت النهائي علميا وعمليا. في الموضوع تطبيقان على الأقل، مثال دولة كبرى كالهند استقر أمرها على الإنجليزية كلغة علمية أولى ونقيضها دولة الصين وكذلك دول صغيرة عديدة احتفظت بلغاتها القومية كلغة علمية إلزامية أولى ولكن وفي خط مواز مع الالتزام باللغة الإنجليزية كمتطلب أساسي للتطور العلمي مع وجود مركز وطني فائق التجهيزات والقدرات للترجمة الفورية اليومية لكل مصطلح علمي جديد كما هو الحال في بولندا، تركيا، كوريا الجنوبية، بلغاريا وللأسف إسرائيل أيضا. هنا نلاحظ أن الدول التي تخلت عن لغتها القومية (مثال الهند) ليس لها أصلا لغة قومية واحدة وإنما لغات عديدة لأن الدولة مكونة من نسيج متعدد العرقيات واللغات والأديان ومن الصعب تحديد لغة بذاتها درءا للحساسات. كما نلاحظ أيضا أنه لا توجد دولة أحادية اللغة فرطت بلغتها القومية لصاح لغة أجنبية غير الدول العربية مع استثناء الجمهورية العربية السورية. نحن هنا وعلى امتداد الساحة العربية بين قارتين نمتلك لغة واحدة ودين أغلبية واحد ونسيجا عرقيا عربيا كبيرا تتداخل فيه هنا وهناك تطريزات عرقية أخرى تشربت العربية وتشربتها العربية حتى أصبحت كالأعصاب والعروق في نسيج اللحم والعظم.

في الختام.. لغتنا مصابة بنا، وتحديدا في مؤسساتنا العلمية والتعليمية عندما انصرفت إلى اجترار الفتات العلمي والتباهي الإعلامي به بدلا من تشمير السواعد وحسر الرؤوس والانصراف إلى التمكين لكيان وطني فعال للترجمة العلمية السريعة وإجبار المنتسبين للدراسات كلها على استيعاب واستخدام لغتهم الأم رغم أنوفهم. لقد وصلت الأمور بنا إلى طرح إمكانية التدريس في المدارس الأجنبية الخاصة بأي لغة يريدها القائمون عليها. ياللعقوق ويالبؤس الواقع.

كتبت هذه المقالة قبل علمي بتأسيس مركز الملك عبدالله -حفظه الله- لخدمة اللغة العربية، وأرجو أن يكون هذا المركز بمقام وزارة علمية متكاملة ترتبط بها كل المؤسسات العلمية وأن يكون فاتحة خير للغتنا الحبيبة الجميلة الموقرة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد