Al Jazirah NewsPaper Friday  30/04/2010 G Issue 13728
الجمعة 16 جمادى الأول 1431   العدد  13728
 

عبدالرحمن الناصر إلى دار المقام

 

تولى وأبقى بيننا طيب ذكره

كباقي ضياء الشمس حين تغيب

يختلف وقع المصائب على النفوس من شخص لأخر قوة وضعفاً، منها ما ينزل على المهج هوياً كبعض الأجرام السماوية الملتهبة نزولاً بانحدار سريع صوب الكوكب الأرضي داكةً تلك الجبال المواكث والهضاب دكاً، فمصائب الدنيا لا تنيء متتابعةً وإن صفت يوماً أعقب صفوها كدر، فهي دار أحزان وأتراح، وسعيد من إذا انتهت مدة إقامته في الدنيا يرحل بزادٍ من التقوى يضيء له الدروب إلى دار المقام دار النعيم، وبذكرٍ جميل تردده الأجيال على تعاقب الملوين:

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له

من الله في دار المقام نصيب

فبينما كنت مغتبطا أسير على متن حافلةٍ بصحبة بعض أفراد أسرتي بقيادة أحد أنجالي البررة متوجهين صوب المسجد النبوي بالمدينة المنورة مضجع ومحض جسد سيد البشر محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب عليهم رضوان الله يحدونا الشوق للصلاة في ذاك المسجد المتربع على أرض تلك البقاع الطاهرة التي يضاعف فيها الأجر والحسنات، والسلام على صفوة الخلق سيدنا محمد بن عبدالله، وعلى صاحبيه رضي الله عنهما حيث رن الهاتف المحمول رنةً أعقبها نبأ محزن بوفاة شابٍ نشأ في طاعة الله قل المماثل له خلقاً وأدباً وسماحة خلق، إنه الأستاذ الفاضل المربي عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالرحمن الناصر على إثر مرضٍ عضال لم يمهله طويلاً ولم يعطه فرصة للأخذ بالأسباب لصده وإبعاده عن جسده، وكأني بشعوب -على سبيل التوهم- قد اعتذر منه قائلاً: قد أمرني المولى بإنهاء عمرك، حيث سطر مقداره في اللوح المحفوظ منذ الأزل، ففاضت روحه الطاهرة بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء 6-5-1431هـ بعد رحلة مشرفة في حقل التربية التعليم والتدريس في عددٍ من المواقع حتى ألقى عصا التسيار والترحال في مهوى رأسه ومحض طفولته -محافظة حريملاء- وقد بدأ مشواره التعليمي بالمرحلة الابتدائية في المدرسة السعودية بحريملاء، ثم بالمعهد العلمي بها مواصلاً دراسته بالمرحلة الجامعية بكل نشاط وتفوق علمياً وأدبياً وقد تخرج من كلية الشريعة بمدينة الرياض عام 98-1399هـ ثم عين مدرساً بالمعهد العلمي بحوطة سدير عام 1399هـ، وظل هناك على ملاك إدارة المعاهد والكليات مدة من الزمن، فلم يعقه ذلك عن مواصلة زيارته وبره بوالديه كبيري السن للاطمئنان على صحتهما، و القيام بخدمتهما في أواخر كل أسبوع حيث يحضر من حوطة سدير إلى حريملاء محاولاً طلب نقله إلى المعهد العلمي بحريملاء ليكون على مقربة منهما، ونظراً لتعذر تحقق أمنيته بحريملاء لكثرة عدد المعلمين بالمعهد العلمي طلب بإلحاح أن ينقل على ملاك وزارة المعارف - آنذاك - فتم له ذلك فنقل إلى متوسطة «رغبة» الواقعة غربي حريملاء على بعد 35 كيلو تقريباً ومكث فيها حوالي سبع سنوات وأخيراً وجه إلى متوسطة وثانوية حريملاء.

وكان أثناء وجودنا على رأس العمل يعمل بكل جد و إخلاص وأمانة، ويتقبل القيام بحصص الانتظار بصدر رحب فيستغلها فيما ينفع الطلاب ويجدد نشاطهم رغم كثافة عدد الحصص والمواد في جدوله ولم يعهد عنه -رحمه الله- تقطيب حاجبيه، وقد حباه المولى رحابة صدر ولين جانبٍ، وإخلاص في أداء عمله طيلة الفترة الزمنية التي عاشها محبوباً ومقدراً في حقل التدريس، وقد ظهر ذلك جلياً على تفوق أبنائه الطلبة في جميع المواد التي كان يدرسها في كل المواقع وذلك من تأثيره النفسي عليهم وحبهم إياه، حيث ينفحهم بالنصائح والتوجيهات الأبوية التي تضيء لهم سبل النجاح والفلاح في قابل حياتهم العلمية والاجتماعية، و حسن التعامل مع الغير، فلسان حاله - يرحمه الله - يذكرهم بفضائل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما وهب من خلق عظيم بقوله {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، فالتحلي بالأخلاق والآداب عالية المستوى تحمي المرء المسلم - بحول الله وقدرته - من الزلل والجنوح، ولقد أجاد الشاعر المصري حاثاً على الاتصاف بجوهر الآداب والفضائل حيث يقول:

فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإنهمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فالأستاذ عبدالرحمن - أبوفهد - قمة في الأخلاق الحميدة والاستقامة وحسن التعايش مع الجميع، والحث على قوة الترابط والتآلف بين الأسر وسائر أفراد المجتمع، بل وبالبر وصلة الرحم حيث احتضن إخوته الصغار وقام برعايتهم بعد رحيل والده والدهم جميعاً حتى كبروا مع بره المتناهي بوالدته الحنون قبل أن يفجع برحيها عنهم - رحم الله الجميع -، فهو محبوب لدى زملائه وأبنائه الطلبة لما يتحلى به من أدب رفيع، ومن دماثة خلق ولين جانب وثغر باسم، ولقد كان لرحيله بالغ الحزن العميق في نفوس أسرته وأبنائه وإخوته ومحبيه، حيث خيم الحزن على أجواء حريملاء وما حولها، وعلى ساكنيها لما له من مكانة عالية ومحبة صادقة في طوايا نفوسهم، وقد اكتظ المسجد الجامع بالحي الجديد وساحاته بحريملاء رغم رحابته واتساعه بجموعٍ غفيرة قدموا من عددٍ من المحافظات والبلدان المجاورة رجالاً ونساءً وأطفالاً رافعين أكف الضراعة للمولى بأن يحسن وفادته ويتغمده بواسع رحمته، ومما زاد حزن المشيعين له تدافع تلامذته وأبنائه الصغار على حافة القبر وهو ينزل برفقٍ وأعينهم تتابع النظر إلى جثمانه الطاهر قبل أن يغيب عنهم إلى الأبد، وقد أجهشوا بالبكاء المر المسموع فأبكوا من حولهم، وقد رطبوا حافات قبره بوابل من دموعهم الحرى، ولك أن تتصور ما بداخلهم من لوعات الفراغ الأبدي عندما يعودون إلى منزله وقد خلا من شخصه، تغمده الله بواسع رحمته، والهم ذويه و إخوته وأبنائه وبناته، وعقيلته - أم فهد - ومحبيه الصبر والسلوان.

(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون) .

عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد