Al Jazirah NewsPaper Friday  07/05/2010 G Issue 13735
الجمعة 23 جمادى الأول 1431   العدد  13735
 

الفوارق الذاتية والاجتماعية بين البشر
د. علي بن محمد التويجري

 

روي أن حكيما من الحكماء طلب من رجل غني أن ينظر من النافذة، ثم سأله: ماذا ترى؟ فأجاب الغني: أرى الناس.. ثم أخذه من يده وطلب إليه أن ينظر في المرآة، ثم سأله: ماذا ترى؟ فقال الرجل: أرى نفسي..!!

وهنا قال الحكيم: المرآة زجاج والنافذة زجاج.. لكن (المرآة) قد أضيف إلى زجاجها طبقة من الفضة، فجعلتك لا ترى إلا نفسك..!!

حكاية لطيفة.. لكنني لاحظت أنني كلما ازددت تأملاً لها، ازدادت عمقا واتسع نطاقها أكثر وأكثر.

ذلك أن طبقة رقيقة جداً (الفضة في المرآة) يمكن أن تعزلنا عن الناس.. وإذن فكيف وماذا تفعل الفوارق الذاتية والاجتماعية الغليظة فينا؟

وإذا كان من الصعب حقا تصور الدنيا بلا طبقات أو فروق أو عوازل تفرق بين البشر، فإننا من جانب آخر ينبغي أن نعمل بمنتهى التفاني على ألا تكون تلك الفروق معتمة مهما كانت رقيقة..

وأن تكون شفافة إذا كانت سميكة..

(فالعلم) فاصل لا ينكر بين العالم وغيره.

(والمنصب) فاصل بين صاحب النفوذ ومن لا جاه له..

(والمال) أيضاً فاصل بين الغني والفقير..

وبدلاً من أن تكون هذه الفروق جدراناً شامخة غليظة تجعل الناس في جزر منفصلة مفككة متحاسدة متباغضة، فإننا يمكن أن نمد منها (معابر) بل يجب.

فصاحب العلم مسؤول عن غيره، وعليه أن يعود بعلمه على من لا علم له..

وحائز المال يعود به على من لا مال معه..

ومالك النفوذ والجاه يعود به على من لا جاه له..

وهذا معناه أننا نذيب الجدران فنجعل بدلاً منها (معابر)

ونحول السماكة المعتمة إلى شفافية رقيقة..

والمقصود في النهاية ألا ننعزل عن الناس، فنجعل من ذواتنا (أوثانا) نظل لها عاكفين، ندرو حولها، فلا نسمع إلا (أصواتنا) ولا نتأمل إلا (أفكارنا) ولا نبحث إلا عن (مصالحنا الذاتية) ولا يؤلمنا إلا الشوكة التي تخز أجسادنا.. فإذا فعلنا - ولا ينبغي - فهذا هو الوقوع في (شراك لذات) ومصيدتها، والدوران في فلك جاذبيتها وإحياء ونشر مذهب يسعى بنا في الحياة، ويفسر كل ما فيها دون جهر بالقول، على أساس الولاء الداخلي العميق (للأنا).. فكل ما يضرني فهو ضار، ولو كان الأنفع للناس جميعاً..

وكل ما ينفعني فهو نافع، وإن أضر الدنيا بأسرها..

أي أنه (أنا) (أنا) برنينها الرهيب، ولو كان من بعدي الطوفان، فإذا انتشر وساد مذهب حب الذات.. فلا بد أن يؤدي بأي مجتمع محلي أو عالمي إلى الهلاك.. إن آجلا أو عاجلا.. مهما تألقت فيه مظاهر القوة والثراء والعلم، فهو مجتمع يتفجر أو يتحلل إلى وحداته الأساسية المكونة له، مع تقطع الروابط التي تشد أفراده بالآخرين.

ولعل سيادة هذا المذهب تفسر ألوان الشقاء التي تتدحرج إليها كثير من المجتمعات البشرية العصرية، التي تقع في أخاديدها كتل مهمة من البشر، تحفر كل منها بإصرار شيطاني أخدودها، وتؤجج نيرانه بتخطيط أفرغت فيه قوى العلم، حيث أعدت مراكز لخدمات الشر المتطورة العاجلة ولتأجيجها في مختلف المواقع من دنيانا التي توشك أن تكون كعصف مأكول.

وأي تربية كي توصف بأنها منقذة أو إنسانية ينبغي أن يكون من أساسياتها أن تربي أتباعها على (تحطيم وثنية الذات) وغرس وتثبيت وإنماء احترام الآخر.

وفي الدرس الرفيع الذي لم نُولِه عنايتنا الكافية كان شرط عضوية نادي الإيمان في أمتنا هو القيام بهذه الرياضة الداخلية الفذة لتقوية عضلات الحس الجماعي الإنساني، على حساب الأثرة والذات الداخلية المحدودة.. هذا النص البديع يتجلى ذلك في هذا النص البديع الذي كان يمكن أن يتهم بالإغراق في الخيال لولا المجتمع الأخوي الرفيع الذي أنجزه فعلا على الأرض.

أما النص الرفيع فهو: (لا يؤمن أحكم حتى يحب لأخيه) أو قال (يحب لجاره ما يحب لنفسه).

وما قرأت هذا الحديث الشريف إلا أخذت أتأمل طويلاً طويلاً تلك المساحة الشاسعة فيما يحب كل منا لنفسه، وما يستكثره من الخير.. وما يأمل أن يحققه لنفسه وما يرجو من الناس أن يحققوه له.

تصورت أبعاد كل ذلك..

ثم أخذت في التفكير.. وقد أخذ كل منا يفرش مظلة هذه الأمنيات الذاتية لكي تتحقق للآخرين، بحيث تتطابق مع ما يحبه لنفسه، وتصورت ماذا يحدث لو أننا بعثنا روحا جديدة في مدارسنا داخل الفصول تحرض على تربية النشء على مثل هذا الحديث - ليس بحفظه وتلقينه تلقينا نمطيا - بل بإيجاد التصورات الشريفة عن واجبات الأخوة، وغرسها في الوجدان ومتابعة تطبيقها العملي بصدق في سلوك الطلاب خلال اليوم الدراسي كله داخل الفصول وخارجها.

بربكم.. أي وجه مشرق تسفر عنه الدنيا في ظل التربية التي ينجزها ذلك الحديث وحده؟

فإذا قصفنا وثنية الذات في كل نفس..

فلا يعود ثمة موقع لهذا الشعار الأناني المتطور للقبلي المروع.. ينشده دريد بن الصمة:

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت، وإن ترشد غزية أرشد

وما أظن إلا أن البشرية في كثير من تجمعاتها العصرية ذات البأس والزينة والزخرف ترفع علم (ابن الصمة) وتطرزه بطريقتها الخاصة بسيل من الأسانيد العقلية والأطروحات المنطقية على الطريقة المعروفة المنهي عنها.

وجرب أن تضع اليوم اختبارا.. تحاول أن تكشف به حقيقة الحضارة السائدة في عصرنا..

ادع اليوم أصحاب البشرة البيضاء من أنحاء العالم في صعيد واحد واسألهم - وذلك بعد مرور آلاف السنين على الحضارة البشرية بأمجادها وقصصها وفنونها وتاريخها - واسألهم.. إن كانوا يتصورون حقا أنهم قد جمعتهم يوماً مع الأسود والأصفر من البشر سلالة واحدة وأب واحد..

كيف تكون الإجابة في ظنك؟.. ولندع - أنا وأنت والناس جميعا- جانبا عالم الشعارات والنصوص المكتوبة في الدساتير..!

هل يعتقدون أن هذه الألوان قد خرجت يوما - بعد أن استكنت أجنة - من رحم واحدة هي رحم أمنا الكبيرة حواء؟

نحن وغيرنا أيضا يقرأ ذلك في الكتب السماوية وربما في غيرها..

لكننا نعلم أن الهدف الذي من أجله قيل لنا: إن أباكم واحد.. صار بعيداً

.. مغرقا في الخيال في رأي البعض، بل تم نسيانه أو اغتياله في المناهج التربوية في العالم.

مع أن الهدف من ذكره واضح وجليل وهو مبعد أيضا أن أبناء الأب الواحد هم بالضرورة إخوة ينتسبون للأب الواحد، فإذا أراد البعض أن يدعو اليوم لتربية تستفيد من هذه الحقيقة الكبيرة وأن تقرها بأبعادها العظيمة في نفوس الأجيال الجديدة.. لتقول من خلال المناهج الوطنية في كل دولة وشعب من العالم.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ...)

إذا قلناها وجعلناها تتخلل - باليقين - الأفئدة وهي ما زالت غضة..

فماذا يكون مستقبل العنصرية والتعالي والاستغلال.. تلك العنصرية المنتنة المتحولة حتما للقتل والعنف واهتزاز النظام الدولي من خلال الفتن والحروب الجماعية المصادمة لكل عقل ومنطق!!

بحيث تنزع - تلك المقولة الإيمانية - منهم روح العنصرية والتعالي والاستغلال ثم القتل والعنف مستقبلا.. إذا أراد البعض أن يفعل.. ترى كيف يواجه؟.. وما العراقيل التي يمكن أن تبث في وجه تلك التربية؟

نسأل الله أن يهدينا لخروج عظيم من ضيق حب الذات إلى رحابة النفس المؤمنة التي توقن بالرابطة العريقة التي بدأتنا مع البشرية كلها من نفس واحدة.. من أب واحد.. ومن رحم واحد.. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ).

وأصل هذه الخلقة كما توقنون من تراب، كلكم لآدم.. وأدم من تراب..

(منها خلقناكم.. وفيها نعيدكم.. ومنها نخرجكم تارة أخرى)

كما نسأله أن ينجي الإنسانية كلها من السقوط في أخطر أخدود جهنمي عصري اسمه (حب الذات).. إليه وحده المصير.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد