Al Jazirah NewsPaper Sunday  09/05/2010 G Issue 13737
الأحد 25 جمادى الأول 1431   العدد  13737
 

دفق قلم
كم مغمورٍ في سلامة ومشهورٍ في ندامَهْ
عبد الرحمن بن صالح العشماوي

 

تذكرت مثلاً شعبياً حفظته من جدِّي لأمي -رحمهما الله تعالى- يقول «بعض التِّخِبَّا خَيْرْ من بَدْوَةِ السوق» ومعناه بعض الاختباء على العافية والسلامة خيرٌ من الظهور على الحسرة والنّدامة، وحينما سألت جدي عن سبب هذا المثل قال: يقولون إنَّ رجلاً في إحدى القرى تلقّى شيئاً من العلم، فأحسّ بأنّه أصبح قادراً على الحديث في السوق واعظاً مرشداً، وكانت الأسواق تقام في يوم معين من الأسبوع، بترتيب بين القبائل، فسوق السبت يقام في قرية كذا من قبيلة كذا، وسوق الأحد يقاع في قرية أخرى وهكذا بقية أيام الأسبوع، وما زلت أتذكر ذلك النمط الجميل من الأسواق حينما كنا صغاراً في القرية، فسوق السبت في بلجرشي، وفي الغشامرة، وسوق الأحد في رغدان، وسوق الثلاثاء في الظفير، وسوق الخميس في الباحة، وهكذا دواليك، قال جدّي -رحمه الله-: فقام ذلك الرجل في أحد الأسواق وبدا على الناس من على سطح أحد المتاجر -كما هو معتاد- وقد نادى المنادي: يا أهل السوق انصتوا إلى الموعظة التي سيقدمها فلان، وأنصت الناس، ولكن ذلك المغرور بنفسه سرعان ما اضطرب، وبدأ يخلط في الكلام ويغلط، حتى أضحك الناس، وأصبح حديث طُرْفتهم في ذلك اليوم، فعاد إلى داره كاسفاً، فقابله أبوه وقد بلغه خبر ابنه قائلاً: (سامحك الله يا ولدي أما علمت أن بعض التخبّا خير من بدوةِ السوق). فذهب مثلاً شعبياً عندنا في منطقة الباحة توارثته الأجيال، ولا أدري إن كان مشهوراً في غيرها من المناطق.

أقول، تذكَّرتُ هذا المثل وأنا أشاهد رجالاً في أيامنا هذه يتهافتون على الظهور الإعلامي مأخوذين ببريقه ولمعانه، يلقون بأقوالهم، وآرائهم على عواهنها، ظانين أنهم يضيفون إلى العلم شيئاً وأنهم يرفعون مقامهم في العالمين، وأن معلومات حصلوا عليها من هنا وهناك -كمعلومات صاحب بدوة السوق- تؤهلهم للفتوى، وطرح الآراء، والخوض في مسائل العلم والمعرفة، والرأي والمشورة، والحلال والحرام، ويا له من ظنٍّ يلقي بصاحبه في مهاوي الردى وهو لا يشعر، وشعرت أنني أنحت من ذلك المثل الشعبي الذي رويته عن جدي عنوان هذه المقالة، فلربما كانت صالحة أن تصبح مثلاً في مثل هذا المقام، فكم من مغمور لا يعرفه الناس يعيش في سلامة وكرامة هو وأهله، وكم من مشهور معروف عند الناس يعيش في حسرة وندامة.

العلم بحر لا شاطئ له، والفتوى كالنار الملتهبة تأكل صاحبها إذا أقحم نفسه فيها وتجرأ عليها وإن كان عالماً، فكيف إذا كان ناقص العلم، غير قادر على الإلمام، بجوانب النصوص وخفاياها وناسخها ومنسوخها، وراجحها ومرجوحها، وضعيفها وقويها؟.

إنها دعوة مني صادقة خالصة إلى كل من شدا شيئاً من المعرفة، وحصل على شيء من العلم، وكانت له هواية في القراءة أن يتورع عن خوض مجال لا يستطيع خوضه، وإذا خاضه عجز عن الوصول إلى شاطئ السلامة فيه، فإن ذلك أسلم لدينه ودنياه ومقامه في العالمين.

إشارة:

وهل يشكو جفافَ الروح عَبْدٌ

تضلّع من ينابيع الحَنَانِ

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد