Al Jazirah NewsPaper Sunday  09/05/2010 G Issue 13737
الأحد 25 جمادى الأول 1431   العدد  13737
 
هذرلوجيا
(الواد) الشقي مات!!
سليمان الفليح

 

(يا ولداه.. يا لهوي.. يا لهوي.. ياخراشييييي عليك يا سبعي ويا جملي ويا ولدي الشقي يا محمود يا ابن السعدني) هكذا كانت تندب (الجيزة) وعلى طريقة ندّابات المآتم فيها حيث يلطمن الخدود و(يردحن) على الصدور ويمزقن (الشعور) وكلما أوغلن في الندب وعلت أصواتهن ب(العياط) كلما كان العزاء أكثر دراماتيكية وكان الميت أكثر أهمية ولم لا تندب (الجيزة) ابنها البار وولدها الشقي بل لماذا لا تندب أم الدنيا كلها مصر العظيمة كاتبها الساخر والمشاغب والمبدع العظيم محمود السعدني. بل لماذا لا تندب أمة العرب كلها ابنها المخلص لها حتى الموت والذي دفع في سبيل كرامتها ووحدتها جل أيام العمر التي قضاها من أجلها في السجون والمنافي والقمع والمنع والصعلكة والصرمحة في بلاد الله الشاسعة وهو لا يحمل سوى ضحكته الساخرة وذاته الصابرة وقلمه المسنون، ولم لا تبكيه عواصمنا العربية التي تسكع وتشرد فيها ونام على الأرصفة من أجل كلمة الحق المرة والحادة كلسانه السليط والتي لم يهادن فيها -من أجل شعبه- كل الأنظمة التي مرت على (المحروسة) مصر فقد سُجن كما يقول في عهد عبدالناصر لأنه كان مع النظام، وسجن في عهد السادات لأنه كان ضد النظام وسجن أيضاً لأنه لم يكن ضد النظام ولم يكن مع النظام ولذلك (طفش) من مصر وهام على وجهه في بلاد العرب وجاب أغلب العواصم العربية لتطوّحه كل عاصمة إلى الأخرى بسبب صراحته القصوى وغيرته على تلك العواصم وكأنها الجيزة (الحتّه) التي خرج منها ليحملها في القلب أينما حط. أما أنا فقد عرفته حينما حط في الكويت وفي جريدة السياسة تحديداً وفي النصف الأخير من السبعينات الميلادية حيث احتضنه أحمد الجار الله ليفسح المجال له للكتابة عن مصر في عهد السادات والذي كان -أي السعدني- على خلاف شديد مع نظامه بينما كان الجار الله هو الصحفي العربي الوحيد في المنطقة الذي يؤيد سياسة السادات ويدافع عن زيارته إلى إسرائيل وكان من المفارقة العجيبة والتي تسجل لأبي مشعل الجار الله ودون سواه من أصحاب الصحف العربية أن كل كتّاب الصفحة الأخيرة وليس السعدني وحده -وأنا منهم- كنا نهاجم السادات ونهاجم أحمد الجار الله وفي (جريدته) لدفاعه عن السادات وكان يرد علينا على الصفحة الأولى من نفس الجريدة (!!) أقول في ذلك الزمن الجميل عرفنا أبا أكرم السعدني والتففنا حوله كرمز (للصعاليك العرب المبدعين) ووجدنا فيه الإنسان الرائع والشهم النبيل والذي لا يجامل أحداً في سبيل الحق لذلك طالما تسكعنا معاً في الشوارع الخلفية والأحياء القديمة في الكويت وركبنا البحر على طريقة بحارة الخليج القدماء و(تصرمحنا) في صحراء الكويت مقتفين أثر مالك بن الريب والفرزدق ومهيار الديلمي ونحن نركب الإبل، وكان الغريب في السعدني أنه حينما يأخذه الفرح إلى الحد الأقصى يرفع عقيرته بتلاوة القرآن الكريم بصوت ولا أعذب ولا أروع ولا أخشع منه، تماماً على عكس من يأخذه الفرح للغناء، وفي تلك الفترة تشاجرنا معه على الورق وكتب عنا أجمل الكتابات وتقاسمنا العيش والملح والقهوة المرة وقرأنا له أجمل الأعمال ك(الموكوس في بلاد الفلوس)، (الصعلوكي في بلاد الافريكي)، أو رباعية (الولد الشقي) ورحلات (ابن عطوطه)، و(أمريكا يا ويكا) و(مصر من تاني) و(تمام أفندم) وأروع المقالات الساخرة المبكية في جريدة السياسة مما جعلنا هنا نستغرب إسقاط سنوات إقامته في الكويت فيما نشر عنه بعد وفاته تماماً كما أسقطت السنوات التي عاشها زميلنا الراحل (ناجي) هناك!!

يبقى القول أخيراً إنني وأنا أودع ذلك الصديق النادر المبدع العجيب أتذكر آخر مكالمة لي معه حينما هتف لي صديقنا المشترك سليمان الفهد وقال لي: يا سُلم إن (عمنا العبدلله) وهو يعاني المرض هو أحوج ما يكون لأصوات الأصدقاء فهاتفته. قبل ثلاثة سنوات وبعد الدردشة والفرفشة والعتاب والشتائم المتبادلة سألته (أيُها خدمة يا عم من الرياض؟) فقال لي: أيوه أكتب:

واحد: دله قهوة مركزة لأني (خرمان).

اثنين: شوية لحمه ضاني لأني (جوعان).

ثلاثة: مرثية مخصوص (نعيّي) جاهزة قبل الموت وارسل ذلك كله وفوراً بالبريد المستعجل!

رحم الله عمنا محمود السعدني وغفر له وأسكنه فسيح جناته آمين.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد