Al Jazirah NewsPaper Tuesday  18/05/2010 G Issue 13746
الثلاثاء 04 جمادىالآخرة 1431   العدد  13746
 
شيء من تأريخ تيار ما سمي بـ«الصحوة» في مرحلة العقود الثلاثة المختطفة! 1-2
د. محمد عبدالله العوين

 

ليس من غايات هذه المقالة تقريع رموز تلك العقود الثلاثة، ولا هجاؤهم، ولا تعريتهم، ولا كشف براجميتهم وتقلباتهم وتحولاتهم وانكفائهم - أخيراً - على أنفسهم ومصالحهم وحرصهم على تأكيد نجوميتهم بعد أن انقشعت عن أعينهم الغشاوة

وتكشفت لهم بوادر فشل طموحات الجماعات الإسلاموية في تغيير واقع المجتمعات العربية في مصر وتونس والجزائر والمغرب والسودان وأخيراً في بلادنا!.

لأن رموز مرحلة ما سمي ب»الصحوة» نتاج فترة زمنية طويلة من مخاضات تولد تيار فكري وافد مطارد فار هارب من سجون ومعتقلات بلدان عربية أخرى مجاورة ووجد لدينا البيئة الدينية الخصبة ولم يعلن ذكاء منه مقاطعته للتيار السلفي، بل استثمر مواضع التلاقي الفكري ثم ولد جيلاً آخر كان قادراً على استنباط تفسيرات جديدة ثورية للنصوص الدينية هو تيار ما عُرف بالسلفية الجهادية الذي هو خليط عجيب أو توليفة غريبة مجمعة من السلفية والإخوانية؛ مما يسمى اصطلاحاً في أدبيات الصحوة الإسلامية ب»الإسلام الحركي»، وأبرز رموزه في مصر «أيمن الظواهري» وفي السعودية «أسامة بن لادن» اللذان ابتدعا فكرة تنظيم «القاعدة» الإرهابي ووضعا خططه ورسما أهدافه التدميرية، وفي الأردن «عصام البرقاوي» الملقب بأبي محمد المقدسي صاحب كتابي «الكواشف الجلية» و»ملة إبراهيم» الذي ضلل طائفة كبيرة من شباننا، ومنهم: رياض الهاجري وخالد السعيد ومصلح الشمراني، وقد اعترف بشيء من ذلك التضليل أحد منفذي تفجير شارع الثلاثين بالعليا بمدينة بالرياض عام 1416ه «عبدالعزيز المعثم» الذي يقول عن تأثره بكتاب «ملة إبراهيم» للمقدسي: (وعندما قرأت هذا الكتاب ملة إبراهيم تحمست لزيارة أبي محمد عصام المقدسي، وفعلاً زرت أبا محمد عصام المقدسي عدة مرات في الأردن وتأثرت بما لديه من أفكار ومنشورات وكتب تكفر حكام الدول العربية وحكومة هذه البلاد وتكفر هيئة كبار العلماء في هذه البلاد).

وتتقاطع أفكارهم على اختلاف صياغاتها مع تيارات تكفيرية رافضة الواقع كله بعلمائه واجتهاداته وأبحاثه وقياداته، ومن تلك التيارات الغالية طائفة أطلقت على نفسها «الجماعة الإسلامية»، وكأن لا جماعة إسلامية غيرها في هذا الكون. صحيح أننا قد نقبل هذا الاسم على جماعة المسلمين في الهند باعتبار أنهم يعيشون وسط عرقيات وديانات مختلفة ومتعددة، لكن كيف نقبلها من جماعة تدعي أنها الجماعة الإسلامية الوحيدة ولا غيرها في مصر مثلاً؟! ومنها أيضاً جماعة «التكفير والهجرة» التي تزعمها «شكري مصطفى» أحد التلاميذ البارين في مدرسة سيد قطب، بل أحد من فجر تفاسيره للنصوص ومنحها بعداً دموياً مواجهاً وقطعي الانتفاء عن المجتمعات الإسلامية قاطبة باعتبارها كافرة أو مرتدة! فشكري وجماعته في مصر لا يتوقفون نظرياً عند كلام سيد بأن المجتمع جاهلي كافر، بل تعتزله وتعلن الحرب عليه كما قال «المعلم» في كتابه الموسوم ب»ظلال القرآن»: (اعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح، وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور) ص 1816 ج3. ويقول أيضاً: (اعتزال الجاهلية نتنها وفسادها وشرها ما أمكن في ذلك، وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها).

ولأن سيد قطب الناقد البصير والأديب الرقيق قريب من نفسي حبيب إلى قلبي بما كتبه قبل عام 1952م من دراسات وقصص ومقالات نقدية في الرسالة والكاتب وغيرهما من مجلات وصحف تلك المرحلة؛ مما جمعه في كتابه الشهير «كتب وشخصيات» أو كتابه القيم «النقد الأدبي - أصوله ومناهجه»، أود أن أثير سؤالاً عميقاً عن أحوال النفس وتقلباتها وأثر ما يعتريها من ضغوط وأثقال على الانحراف بمسار التفكير إلى مناحٍ أخرى مختلفة كل الاختلاف ما كان في خاطره أبداً الوصول إليها ولم يكن متخيلاً لا هو ولا قراؤه أو مجايلوه أن ينتهي النهاية التي وصل إليها أو العذابات التي اعترضته من سجون واعتقالات ومطاردة وتضييق، وهو الأديب الشاعر الناقد المرهف الحس.

إن هذا الذي مر به من انقلاب نفسي وفكري هائل دفعه من الوسط المعتدل إلى أقصى اليمين المتطرف مدعاة إلى التأمل العميق في مدى تأثير حوادث عارضة أو مظالم عابرة أو مواقف مؤلمة على إحداث نقلة نوعية حادة في الاتجاه الفكري وتكوين أحكام جديدة منبثقة من تلك الحوادث العارضة قد لا تتفق مع المنطق السليم ولا مع الرؤية المعتدلة، ولم يكن هو منتظراً من نفسه أن توصله إلى الاصطدام المطلق مع الواقع بنظامه السياسي وكياناته العلمية والدينية بحيث ينفي عنه إسلاميته وينعته بالجاهلي، هذه الرؤى الحادة المصادمة هي التي أوصلته لاحقاً إلى النهاية المأساوية؛ حبل المشنقة!.

لقد أسفت أيما أسف على النهاية التي وصل إليها هذا الأديب الناقد الموهوب مذ بدأ ركابه مع جماعة الإخوان مطلع عام 1952م؛ فقد انشق على نفسه منذ ذلك التاريخ وانحرف بمقالاته الأدبية النقدية المدوية من المجلات المرموقة في تلك السنين إلى مجلة «الدعوة» لسان الجماعة الناطق المدافع عن مشروعاتها الفكرية وتنظيراتها لواقع الأمة، وتحول من نخبة أدباء مصر والعالم العربي ونقادها الكبار إلى أفق محدود وفضاء ضيق يكاد يخنق من فيه، وهو فضاء الجماعة وما تعيشه من إثبات وجود ومن مواجهة حادة مع السلطة العسكرية الجديدة الناشئة في مصر.

أما قائمة تلاميذ المدرسة القطبية، على اختلاف مناهجها وتعدد أتباعها من المخدوعين بما يمكن أن أسميه «الفكر العصابي» فكر التكفير وطروحاته وأحلامه، فطويلة جداً وبعيدة في امتدادها الزمني؛ بدأت من امتداد الآثار الفكرية والأدبية لهذه المدرسة وهجرة عدد كبير من رموزها بعد التضييق عليهم في مصر واستقبال هذه البلاد لهم بكل الأريحية وكرم الضيافة ثم تكون جيل من تلامذتهم من شباب جيل التسعينيات الهجرية من القرن الماضي وتلقفهم كل التفاسير والكتب والرؤى والتنظيرات لواقع الأمة ونشوء جيل تيار فكري جديد متشرب بالسلفية التقليدية ومتطلع إلى تحديث مفهومات تقليدية متوارثة بحيث تهيئ للانقلاب الإسلامي المنتظر على المجتمع الجاهلي حسب رؤية سيد وحماسة أتباعه من أبنائنا التلاميذ، وهكذا نشأ تيار ما سمي تجاوزاً بالصحوة، وكأن هذا المصطلح يقول: إن هذه الأمة في غفلة إن لم تكن في حالة سبات طويلة ثم صحت من سباتها وغفلتها الطويلة وبدأت تعيد النظر في أحكامها على الواقع ورؤيتها للحياة!

ما كان أحد ينتظر أبداً أن يستهل مطلع هذا القرن الهجري الجديد بفكر ظلامي بائس أراق الدم البريء وروع الآمنين ومنع الصلاة في الحرم الشريف ثلاث جمع لأول مرة في التاريخ، ولكن ثمرة الساحة المفتوحة - آنذاك - في العقدين السابقين لمطلع القرن الهجري الجديد لكل التيارات والجماعات الإسلاموية كانت ستؤتي ثمارها المرة حتماً؛ إما على هيئة حادثة الحرم من جماعة «السلفية الجهادية» أو جماعة أهل الحديث التي تزعمها جهيمان، أو على هيئة تيار ما سمي ب»الصحوة» المهيج الساخط على الواقع الذي كان من ثماره المرة منظمة «القاعدة» ومن انساق إليها من الضحايا ممن انخدع بدعاواها في محاربة العالم كله، ومنهم خمسة عشر شاباً فجروا أبراج نيويورك، ثم حالة الهياج الفكري بشريط الكاسيت والمنشور المكتوب بالفاكس التي شهدتها الساحة السعودية طوال عقدين صاخبين من الزمن، ساعد على تعميق تأثيرها في التربة السعودية وقوع أحداث فاصلة كاحتلال أفغانستان من قبل الاتحاد السوفيتي الشيوعي، واحتلال العراق للكويت، والاحتلال الأمريكي للعراق.

ولكن أوضح صور تأثير هذه الصحوة المدعاة بدء مواجهة السلطة والمجتمع حربياً، والتدبير والتخطيط للدخول في مواجهة عسكرية بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وأفاد أعضاء هذه الجماعات على اختلاف مصادرها وتلقيها الفكري من ساحات الصراع في العالم العربي والإسلامي، وعلى الأخص أفغانستان التي كانت المصنع المنتج المولد للعناصر الحربية المسلحة القادرة على التفخيخ والتشريك والدخول في مواجهة منظمة مع الأجهزة الأمنية؛ فبدأت تلك الجماعات جمع الأسلحة وتهريبها والحصول على الأموال بطرق شتى قائمة على الخديعة واستغفال الناس واستغلال طيبتهم وحبهم للتبرع لأعمال الخير، وما كشفته الأجهزة الأمنية من مخابئ مرعبة في كل مكان من المملكة دليل دامغ على سعة مخططات هذه الجماعات وطموحهم الكبير لتغيير وجه الحياة في بلادنا وتحويلها إلى «طالبان» جديدة!

تلك الطموحات البعيدة في مراميها الحالمة بتكوين جبهة جهادية في قلب جزيرة العرب - كما يقولون - تكون نواة للدولة الإسلامية المنتظرة - كما يحلمون - بدأت بحادثة العليا عام 1416ه ولم تنته بهلاك دفعات متتالية من هؤلاء التكفيريين المخدوعين المندفعين على غير هدى ولا بصيرة، على رأسهم يوسف العييري وصالح العوفي وعبدالعزيز المقرن وعبدالله الرشود، أو القبض على بعض منظريهم ومحرضيهم ومن لف لفهم كفارس الزوهراني الملقب ب»أبي جندل الأزدي» الذي كان يكتب في مواقع النت التكفيرية من أحد بطون أودية العرب كما يقول!؛ فلا بد من وقفات تذكيرية متواصلة مع هذا الفكر نقداً وتحليلاً ودراسة للمواقف والحوادث والشخصيات لأخذ العبر والعظات ووضع النصوص في محلها الصحيح من التفسير القائم على تغيي مصلحة الأمة والوطن، بعيداً عن اختطاف جماعة تكفيرية أو تيار يتخفى خلف النصوص وله مراميه السياسية البعيدة الهادفة إلى السيطرة على مقاليد الأمور لصياغة المجتمع وفق ما يهواه ويراه ذلك التيار فتنشأ دويلات عدائية تواجه شعوبها والعالم وتعيش في أزمنة منقرضة كما هي التجربة المرة في دويلة «طالبان» التي لم تعمر أكثر من ست سنين عاش فيها الأفغان حرماناً مطلقاً من التعليم والتطبيب والخدمات الحياتية المختلفة، ولا يمكن أن ننسى أبداً قوائم الطوابير الطويلة أمام صوالين الحلاقة البدائية بعد سقوط نظام طالبان!

لقد عجبت بل بكيت ألماً من تردي حالة الأمة ووصول بعض أبنائها إلى نقطة افتراق مع العالم كله، حين قرأت كما قرأ غيري كثيرون عن موقف ذلك الرجل المغربي المتطرف الذي وجد في حديقة منزله العشوائي المتواضع قبر! فلما سئل عنه لمن يكون هذا القبر؟! فقال إنه قبر أمه، دفنها في منزله لأنه لا يريد أن يدفنها في مقابر الكفار أو المرتدين!! ويعني بهم عامة الشعب المغربي!!.

ليس هذا من شأن هذه المقالة الآن إلقاء العتاب أو الملامة؛ فقد كتبت في التاريخ صفحة، وانفتحت أيضاً صفحة جديدة، فلنحمل من اهتدى إلى طريق الاعتدال منهم على المحمل الحسن، فلربما اكتشف خطل فكره، أو قصور نظرته، أو اندفاعه الأعمى خلف عاطفة ملتهبة مشبوبة، بيد أن هذا الوعي العائد إلى من اعتدل أو عقل أو رشد أو تذاكى لم يتح لطائفة كبيرة من الشبان المندفعين ولا إلى طبقة غير قليلة من الغوغاء وأنصاف المتعلمين وأرباع القراء ونفر آخر من المتفيهقين ومن لديهم استعداد في أي وقت لرمي أنفسهم في أية محرقة في العالم استجابة للتحريض وركضاً وراء فتوى جاهزة؛ فذهبوا وراء ما وعوه وسمعوه ووقر في نفوسهم وصدقوا ما اعتنقوه من فكر انقلابي على المجتمع؛ فرأيناهم يرمون بأنفسهم في محارق الأرض مشارقها ومغاربها، ورأيناهم يقتلون أبناء وطنهم وإخوانهم في الملة والمعتقد، وشركاءهم في الفرض والأرض والمصير، بعد أن وصل بهم التطرف إلى أقصى غاياته؛ فكفروا ولاة الأمر والعلماء والكتاب ورجال الأمن، واعتدوا على النفس والمال فبغوا وطغوا وأدخلوا مجتمعنا إلى حالة حرب داخلية طاحنة طوال خمس سنين مرة من عام 1423هـ إلى نهاية عام 1427هـ لا مع الأعداء المعروفين من الخارج ولكن مع الأبناء الخارجيين من الداخل، وقبل أزمة الاحتراب هذه أدخلونا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م قيادةً وشعباً في حالة اشتباه حرجة مقلقة لا حول ولا طول لنا فيها، ولا شأن للكثرة الكاثرة من مجتمعنا بأسبابها وبأفكارها وما تنادي به من غلو وعزلة وعداء ونفور من العالم كله بما يحمله من تعدد ثقافات ونتاجات إنسانية ومعطيات حضارية مختلفة.

إن ما يدفع إلى تدوين ما يشبه الوقائع أو اليوميات المفرقة عن هذه العقود الثلاثة ليس المحاسبة أو المعاتبة، بل وضع الأمور في نصابها الصحيح أمام الأجيال الجديدة الشابة التي قد تنخدع ببريق الدعاوى أو قد يدلس عليها المزيفون أو قد يدخل عليهم أعداء الوطن بتكرار دعاوى جديدة بلبوس أخرى مزينة؛ فتنشأ لدينا أزمة فكرية جديدة طاحنة، وبخاصة أن بعض النصوص إما هو حمال أوجه أو أنه يمنح من يتغيا تفسيره على نحو ما بعض ما يريد، وسأقف في المقالة القادمة على صور إعلامية وفكرية بسيطة ومكشوفة من نظرات ونقدات ووقائع عنفية غير دموية ولا مسلحة، لكنها تكشف مدى ما وصل إليه حرج من أصيب بلوثة الغلو والتزمت واختطفته الدعاوى الفكرية المنغلقة، وهو يرى بأم عينيه الآن استقرار الأمور وانحسار حالة التهييج والتثوير والكراهية، واعتياد الناس على ما كانوا يرونه بالأمس نشازاً أو غير مقبول ولا مستساغاً!.



ksa-7007@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد