تمر المجتمعات العربية بحالة من الحراك الثقافي والاجتماعي، والذي يظهر أثره في جميع أوجه الحياة من مأكل وملبس ومشرب وتعامل بين الأفراد وغيرها من تأثيرات هذا الحراك، وقد غابت بتأثير هذا الحراك كثير من الصفات التي يجب أن تظل سمة من سمات تلك المجتمعات ومنها ثقافة الاعتذار، تلك الثقافة الغائبة عن الوعي وعن التطبيق أيضاً، فكلمة (الأسف) أصبحت أثقل على لسان الفرد، مهما كان خطؤه كبيراً أو صغيراً إما ترفُّعاً أو استهانة بالآخر، وقد بيّن القرآن الكريم في آياته والسنّة النبوية في الأحاديث الشريفة كلّ ما يعني بالاعتذار من وقت وفعل، والعُذْرُ في اللغة كما ورد في لسان العرب هو: الحجّة التي يُعْتَذر بها، والجمع أعذارٌ. يقال: اعْتَذَر فلان اعْتذاراً وعذرة ومَعْذرة من دَينْهِ فعَذَرْته، وعذَرَه يَعْذُره فيما صنع عُذْراً وعذْرةً وعُذرَى ومَعْذرة، والاسم المعذرة، ولي في هذا الأمر عُذرٌ وعُذرَى ومَعْذرةٌ أي خروج من الذنب، وقيل عن الاعتذار: تحرِّي الإنسان ما يمحو أثر الذنب، كما أنه تبرير لخطأ ارتكبه الإنسان في حق أخيه قولاً أو فعلاً. كما ورد الاعتذار بأشكاله المختلفة في القرآن الكريم، فورد بلفظ تَعْتَذِرُوا ثلاث مرات، ويَعْتَذِرُونَ مرتين، وعُذْرَاً مرتين، والمُعَذِّرُونَ مرة واحدة، ومَعْذرَة مرة واحدة، ومَعْذرَتُهُمْ مرتين، ومَعَاذِيرهُ مرة واحدة، وقد تفاوت المقصود في الآيات حسب الموقف، فنجد لفظة لا تعتذروا قد وردت في سورة التوبة مرتين في الأولى آية (66) يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن المنافقين في قوله: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}، أي لا يعفى عن جميعكم ولابد من عذاب بعضكم فالله سبحانه وتعالى لم يقبل اعتذارهم جميعاً، وفي الآية (94) وردت لفظتا تعتذروا ويعتذرون قال تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وهنا يخبر الله سبحانه وتعالى عن المنافقين حال عودتهم المدينة أنهم سيقدمون اعتذارهم ولكن المسلمين لن يصدقوهم، فالله سبحانه وتعالى أنبأهم بأخبارهم وسيظهر للناس أعمالهم في الدنيا.
كما وردت لفظة لا تعتذروا في سورة التحريم آية (7) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ويخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه يوم القيامة يقال للكفرة لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم.
أما لفظة عُذْراً فقد وردت في سورة الكهف آية (75) {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا }، وفيها شرط سيدنا موسى على نفسه شرطاً في رحلته مع صاحبه إن هو كرر السؤال عن الأحداث التي تقع أن يفارقه، فقد كان صاحبه يردّد له أنه لن يطيق صبراً على ما يجري من أحداث، وكان سيدنا موسى عجلاً في التعليق على ما يجري من وقائع حتى استنفد كل الأعذار ففارقه صاحبه بعدما بيّن له ما لم يدركه من الأفعال التي قام بها.
وفي سورة المرسلات وردت لفظة عُذْراً في الآية رقم (6) {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} وترتبط هذه الآية بالآيتين (4 و5) {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} يعني الملائكة فإنها تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره.
ووردت لفظة المُعَذِّرونَ في سورة التوبة آية (90) {وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }، وهنا يشير جل جلاله إلى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة، فلم يعذرهم الله وأوعدهم بالعذاب الأليم.
وفي سورة الأعراف آية (164) وردت لفظة مَعْذِرَة {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، والأمر هنا متعلِّق بإنكار فئة من اليهود على فئة أخرى وعظهم لمن خالفوا أمر الله تعالى بعدم الصيد يوم السبت، فكان ردُّهم أنّ الله أمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ هذه الفئة الضالة ربما بهذا الوعظ تعود عن غيها.
وفي سورة الروم آية (57) وردت لفظة مَعْذِرَتُهُمْ {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه يوم القيامة لن ينفع الذين ظلموا معذرتهم أي اعتذارهم عما فعلوا.
كما وردت في سورة غافر آية (52) {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، وهنا الأمر متعلِّق بما أوقعه هؤلاء الظالمون بالرسل من قتل أو تعذيب، فيوم القيامة لن يُقبل منهم أي عذر عما فعلوا في الدنيا ولهم اللعنة أي الإبعاد والطرد من الرحمة، ولهم سوء الدار وهي النار.
كما وردت لفظة مَعَاذِيرَهُ في سورة القيامة آية (15) {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} وفيها يخبرنا الله سبحانه وتعالى أنّ الإنسان يوم القيامة شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر.
والمتتبّع لتفسير الآيات الكريمة في السياق السابق يجد أنّ الله سبحانه وتعالى يخبرنا أنّ لا اعتذار بعد فوات الوقت، فإنّ أغلب الآيات تدور حول الكفار ورغبتهم في الاعتذار ولكن متى؟ يريدون الاعتذار يوم القيامة يوم لا ينفع الاعتذار، فقد كانت الفرصة سانحة أمامهم في الحياة الدنيا لتدارك أخطائهم وهذا ما غاب عنهم لشدة كفرهم أو نفاقهم، ونجد في سورة الكهف أنّ سيدنا موسى قد استنفد كل الأعذار ففارقه صاحبه، وهنا تكرار الاعتذار يقلل من قيمته ولا يشفع لصاحبه.
فالإنسان يمر في حياته بكثير من المواقف التي يجد نفسه فيها قد أخطأ في حق شخص ما أو في فعل شيء قد طلب منه، وقد اعتاد كثير منا على التعليق السلبي على ما قام به من فعل أو قول أو قول كلمة (معلش) أو (وسع صدرك) أو (اسحب عليه) إلى غيرها من التعبيرات الدالة على عدم المبالاة بما صدر أو وقع منه، وهذا الشخص الذي لم يكلف نفسه حتى الاعتذار عما بدر منه، وتكرار الخطأ مع كثرة الاعتذار لا تبرر العفو، وقد ينقضي أجل الإنسان وخطؤه في حق الآخرين معلّق في رقبته، فيكون القصاص يوم القيامة.
وجاءت السنّة النبوية المطهّرة لترشدنا إلى تجنُّب ما يعتذر منه من الأقوال والأفعال، روى العسكري في الأمثال عن سعد بن أبي وقاص أنّ رجلاً قال: يا رسول الله أوصني وأوجز، فقال: عليك باليأس مما في أيدي الناس، فإنه الغنى، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصلِّ صلاتك وأنت مودّع وإياك وما يعتذر منه.
وروى الديلمي في مسنده عن أنس رفعه، اذكر الموت في صلاتك، فإنّ الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن تَحْسُن صلاته، وصلِّ صلاة رجلٍ لا يظن أنه يصلي غيرها، وإياك وكل أمر يُعتذر منه، قال في المقاصد وقال شيخنا إنه حسن، قال وهو عند الديلمي أيضاً في حديث أوله اعمل لله رأي العين، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأسبغ طهورك، وإذا دخلت المسجد فاذكر الموت - الحديث، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق عن أبي أيوب أنّ رجلاً قال: يا رسول الله عظني وأوجز، قال: إذا كنت في صلاتك فصلِّ صلاة مودِّع، وإياك وما يُعتذر منه، واجمع اليأس مما في أيدي الناس، ورواه الطبراني في الأوسط عن جابر مرفوعاً بلفظ إياكم والطمع فإنه هو الفقر، وإياكم وما يُعتذر منه.
وأخرجه القضاعي عن ابن عمر أنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله حدثني حديثاً واجعله موجزاً لعلِّي أعيه، فقال صلى الله عليه وسلم: صلِّ صلاة مودِّع كأنك لا تصلي بعدها، وأيَسْ مما في أيدي الناس تعش غنياً، وإياك وما يُعتذر منه.
ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر بلفظ صلِّ صلاة مودِّع، فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك. وأخرجه الطبراني في الأوسط عن سعد بن عمارة وكانت له صحبة أنّ رجلاً قال عظني في نفسي يرحمك الله، قال: إذا انتهيت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، فإنه لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا إيمان لمن لا صلاة له، ثم إذا صليت فصلِّ صلاة مودِّع، واترك طلب كثير من الحاجات، فإنه فقر حاضر، واجمع اليأس مما عند الناس، فإنه هو الغنى، وانظر ما يُعتذر منه من القول والفعل فاجتنبه، وهو موقوف، وأخرجه أحمد والطبراني بسند رجاله ثقات.
وخلاصة القول إنّ عدم الوقوع فيما يستوجب الاعتذار أوجب من الاعتذار، فإذا أمسك المسلم لسانه عن الخطأ نجا بنفسه عن الحشر مع المنافقين والكفار. أليس هذا الأمر جدير بالاعتبار؟
مدارس الرياض للبنين والبنات