Al Jazirah NewsPaper Friday  11/06/2010 G Issue 13770
الجمعة 28 جمادىالآخرة 1431   العدد  13770
 
تقليد بليد
نادر بن سالم الكلباني

 

نحن لم نبتدع أو نخترع الديمقراطية بمفهومها الحالي، ولم نخترع الاشتراكية والليبرالية والعلمانية وغيرها من هذه المصطلحات التي تصف فكراً أو تحدد منهج سلوك..

ونحن أيضا لم نخترع أو نبتدع أعياد الأم وأعياد الحب وأعياد الزواج وغيرها من هذه الاحتفالات التي تبحث عن دلالات بديلة لشعور مفقود، وإنما أخذناها وتعلمناها من غيرنا الذي فكر فيها، وعارك تفاصيل وظروف ولادتها، حتى إذا ما ظن أنها قد بلغت أشدها في ذهنه، أطلقها لعلها تنتشله من واقع مر به لم يرضه، أو تحيي فيه مشاعر ماتت تفتقدها روحه وإنسانيته.. نحن بوجه عام لم نبتدع أو نخترع إلى الآن ما يجعل غيرنا يقلده ويتبناه كما نفعل نحن مع ما يحدثه غيرنا، لأننا ببساطة أعجز من أن ننتج أو نبتدع شيئاً من لدنا ومن محض بيئتنا وظروفنا، وأضعف من أن نقود غيرنا لينقل ما نحدثه.. والذي يخالف هذا لا يعيش في واقع نراه يعزز ما أقول.

الحقيقة الواضحة أننا سوق مفتوحة تقبل كل شيء، ويتسابق الآخرون عليها ليسوقوا منتجاتهم وبضاعتهم المالية والفكرية والثقافية، بعد أن تأكدوا من أننا لا نحسن الاختراع والمبادءة، وأننا نبهر بكل ما يُحدثه غيرنا، بل نتمادى ونجعل ما يحدثه الغير ومقدار الاندماج فيه و معه هو أساس تقييمنا لعصرية وانفتاح ذهن هذا أو ذاك. انبهارنا بالغير وبثقافته وبمصطلحاته اللغوية، فرض علينا أن نهمل ونحن نلهث خلف أمر لم نبلغه، ومغريات لم نقدر على مواجهتها، أساس ريادتنا وقيادتنا لهذا العالم التي لا يمكن أن تعود ونحن نتبرأ بشكل أو آخر من طبيعتنا ومن جذور ثقافتنا، ما نتفوق فيه الآن على غيرنا، ولا ينازعنا أحد في ذلك، إبداعنا في الاستهلاك، والتفنن في أساليب وطرق ما نستهلكه، فيكفي أن يُتعب غيرنا عقله أو فكره لينتج منتجاً بغض النظر عن نوعه وطبيعته أو صوابه وخطأه، ويترك الباقي علينا، فنحن جديرون وبارعون في نقله وتقليده ونشره وتبريره أيضا، وقد نقاتل في سبيل ذلك حتى ولو لم نفهم معظم ما نقلده وننقله.

المشكلة ليست هنا، فقد يكون في بعض ما نأخذه من غيرنا فائدته، المشكلة أننا بليدون حتى في النقل والاقتباس، فكل ما افتتنا به ونقلناه، حورناه وشوهناه وغيرنا مساره، وقلبنا به واقعنا الذي يبحث عن مثله من نقلنا منه، من واقع ثابت مستقر معزز فيه الإنسان وعلاقاته بمن حوله، ومشاعة فيه قيمه وحدوده، إلى واقع مليء بصراعاته وانقساماته، دون أن نعرف هدفا نصل إليه، غير أننا نقلد ما فعله غيرنا، فجاءت ديمقراطيتنا المزعومة تعزيزاً لديكتاتورية أنفسنا، واشتراكيتنا المقلدة سلبا لأموال غيرنا، وليبراليتنا أو علمانيتنا المضللة حتى نخسر الإنسان فينا فلا يعود خاضعا لما يحد من هوى نفسه، وجردنا ما اقتبسناه من مناسبات مبتدعة من هدفها الأساسي، فصارت مناسبات أعياد الحب وأعياد الميلاد وغيرها مما أوجدته مجتمعات تبحث عن تعزيز الروابط الإنسانية التي تفككت عراها فيها، لنجعلها ساحات للتباهي والتنافس في باقات الورود وكل ما هو مادي، وبتنا لا نذكر أمهاتنا أو زوجاتنا ولا نحرص عليهن أكثر من حرصنا على مناسبة ما نسميه أعيادهن، فلا نحن بعد معاركة ومراجعة لما يمر بحياتنا وظروفها قلدنا غيرنا في التفكير واختراع ما ينفعنا، وأنتجنا ما نراه ينتشلنا من واقع نسعى لتحسينه إلى مستقبل أفضل نعول عليه، ولا نحن نجحنا في تطبيق ما نقلناه من غيرنا، بعبارة بسيطة، حتى في التقليد لم نفلح.. والله المستعان.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد