Al Jazirah NewsPaper Friday  11/06/2010 G Issue 13770
الجمعة 28 جمادىالآخرة 1431   العدد  13770
 
سيف القصاص
حسين نوح مشامع

 

تعود الجلوس قريبا من بوابة زنزانته، مراقبا للبوابة الخارجية للعنبر، كأنه جندي مرابط على جبهة القتال، في انتظار أوامر الهجوم. ملتحفا ببرنصه لا يظهر منه إلا عيناه، كأنه ابن عرس واقفا على قائمتيه الخلفيتين يرقب ما حول منطقته. وسيل عرق يتصبب من جبينه بغزارة، محاولا إطفاء لهيب النار المشتعلة بداخله.

لفت جلوسه انتباه أحد النزلاء الجدد، لم تعركه وحشة الجدران الباردة الصامتة بعد، فاقترب منه محاولا تسلية نفسه، إذ لم يجد من يلتفت إليه، فالكل منطو على نفسه مشغول ببليته. فحاول جره للدخول في حديث يقتل به الوقت، ويخفف عليه وطأة العزلة عن العالم الخارجي.

بدأ متكلما عن نفسه: لقد أدخلت السجن على اثر خلاف شبابي، وتحمس كروي تطور إلى شجار وتجاذب بالأيدي والعصي - الحمد لله - لم يصل إلى حد إزهاق الأرواح، لذا سوف أكون بجوارك لبعض الوقت.

واقعا شدني إليك ابتعادك عن الآخرين، وتعلق عينيك بالباب الخارجي، كأنك على موعد مضروب مسبقا! ومظهرك الذي لا يدل على أنك من أصحاب السوابق، بل على حسن تربية وخروج من عائلة كريمة.

أخرج زفرة بركانية من بين ضلوعه، فلقد لمس جليسه الجروح وحرك القروح. صدقت لقد كنت من عائلة كريمة، هذا قبل دخولي السجن.

ماذا تقصد بذلك لقد جرحت قلبي؟

بما أنك نتأت القرحة، فاستمع أقص عليك بليتي.

فأدار رأسه عن الباب واعتدل في جلسته، نازعا عنه برنصه مقبلا على صاحبه، ووجه رفيقه إليه كل حواسه، كيلا تفوته كلمة تخرج من فيه.

بدأت مشكلتي يوم دخولي سن المراهقة، وعندها لم يعجبني أسلوب أبي في التربية، ولم يستطع احتوائي وضمي إليه. فكنت أفر منه وأتحاشى مقابلته والجلوس إليه، وبطبيعة الحال كنت أتوق إلى تعبئة هذا الفراغ باللجوء إلى الأصدقاء.

هكذا واصلا حديثهما خلال وجودهما مع بعضهما، لم يقطعه إلا الأكل، والاستمتاع بالشمس والرياضة، والخلود إلى الراحة من النهار أو النوم من الليل، والذي لابد منه التحقيق. وعند تقابلهما من جديد يواصلان حديثهما من حيث قطعاه.

أول أصدقائي كانوا من رواد المساجد، طيبون مسالمون بعيدون عن المشاغبة والتطفل على الآخرين. فادخل من ذلك بعض السرور على قلب والدي، لاعتقاده إنها بداية صلاحي واستقامتي. ولكن ذلك لم يكن ليقنعني ويرضي غروري، ويشبع تلك الفورة الشبابية بداخلي.

تركتهم ولجأت إلى أحد الديوانيات الشبابية، وأمضيت معهم وقتا ليس بالقصير. أشاركهم في مسراتهم ولهوهم، وأسهر معهم على أفلام ومسلسلات إلى أن جاء ذلك اليوم عندما دخلوا في نقاش وصراع حاد وصل إلى تماسك بالأيدي، وتباغضوا وتدابروا وانفض الجمع وولوا الدبر. وعندما سألت عن سبب تنافر الإخوان والأصدقاء؟ فكان مجرد مسلسل تلفزيوني أجنبي مدبلج.

بحثت عن غيرهم، لهم اهتمام وتوجه مغاير ومخالف. فكان أمامي المفحطون، ومن يركبون السيارات والدراجات النارية، يقودونها بسرعة جنونية، حتى تحترق إطاراتها وتملأ الجو برائحتها العفنة وأبخرتها الخانقة، استدرارا للتشجيع وإعجاب وتصفيق الآخرين.

أعجبتني هذه الحركات البهلوانية، والتصفيق والتشجيع الحار من الجمهور والمشجعين المصطفين على طول الشارع البحري. كنت أراقب وأستمتع بتلك الحركات البهلوانية التي تقوم بها المجموعة.

أحدهم طلب مني تقديم عرض عن بعض مواهبي، وأخذ يشجعني ويهون علي الأمر. ورغم عدم معرفتي بالقيادة، عمني الحياء والخجل من معرفة الآخرين ذلك، فيأخذون في الاستهزاء بي والتصغير من مقامي بينهم.

دفعته جانبا وفتحت باب السيارة، كأني فارس مغوار يمتطي فرسه. جلست على المقعد، وقبل إقفال الباب وضعت قدمي على دواسة الوقود، فأخذت تزأر كأسد أطلق من عقاله، وارتفعت مقدمتها في الهواء، تخيلتها طائرة على وشك الإقلاع.

لم أستطع التحكم في المقود، فانفلت زمامها من بين يدي، وانطلقت كالقذيفة باتجاه المتنزهين على الشاطئ. ولم تسكن حتى سقطت مطمئنة - بعد أن قذفتني في الهواء من جوفها - على عائلة جالسة هناك تتجهز لتناول طعامها.

ما مصير تلك العائلة؟

قطع حديثهما مشاهدة أحد الشرطة واقفا على باب الزنزانة قائلا: على الموقوفين على أثر المشاجرة الكروية مرافقتي فقد أخلي سبيلهم.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد