Al Jazirah NewsPaper Monday  14/06/2010 G Issue 13773
الأثنين 02 رجب 1431   العدد  13773
 

طِبْتَ حَيَّاً وَمَيّتَاً يَا عُثمَان الصّالحْ !!
عبدالله بن ثاني

 

رحمك الله ياشيخ عثمان فلقد ذكرتني الطعن وكنت ناسيا كما قالت العرب، حينما عثرت على رسالتك - التي أرسلتها لي وتثني فيها على الأمير نايف - بين أوراقي القديمة صباح هذا اليوم فبعثت الحزن من مرقده وحشرته عليّ بخيله ورجله بلا ميزان..

.. فطبت حيا وميتا حينما ذكرتني أيضا ما سطرته أنامل العلامة محمود شاكر في الثناء على الأمير نايف بعد أن عالجه من العمى وشفاه الله، ولم يسعفني سوى قلمي لكتابة شعور متفلت لايؤجل وصفه ولايتجاهل صدقه مع إيماني العميق بأن الحديث عن الرجال صعب وبخاصة إذا كان المقال يقوم على ثلاثة أسماء (الأمير نايف، والعلامة محمود شاكر، والشيخ المربي عثمان الصالح) وهؤلاء شهود على الانتقال بين زمانين مختلفين وكل منها لايحتاج إلى إطراء لأنها شخصيات اعتبارية أثرت في البناء الحضاري والإنساني بطريقة تنويرية، وفي عملية منجهية موضوعية ولايقل عنهم أمثالهم ممن أشرب قلبي حبهم واحترامهم من تلاميذ العلامة محمود شاكر ممن كانوا يفدون عليه مثل إحسان عباس وناصر الدين الأسد وشاكر الفحام وإبراهيم شبوح وممن كان يحرص على حضور جلسته بعد مغرب الجمعة من أمثال فتحي رضوان ويحيى حقي ومحمود إسماعيل ومالك نبي وعبدالرحمن بدوي وعبدالله الطيب وغيرهم ممن أرسى قواعد رصينة لنهضة علمية أخذت بروح الإسلام والعصر لمواجهة التحديات المتسارعة بصورة خلاقة..

صدقا حينما يتشرف قلمك بذكر محمود شاكر (أبوفهر) تشعر بغصة وإرهاصات دمعة حرى لا تدري ما سببها ربما شوقا وحنينا وربما أسى ولوعة وربما شفقة على مدّعي الثقافة والعلم الذين ملأوا الأروقة والطرقات والفضائيات ولايفرق أحدهم بين همزة الوصل والقطع على أقل تقدير، كيف لايكون ذلك وهو ظاهرة فريدة في الأدب والثقافة العربية الحديثة، تميز أبو فهر رحمه الله بأسلوب لا يبارى أو يحاكى، وملك أسباب القوافي حتى حقق في الإبداع الشعري ما بلغ ذروته في قصيدته «القوس العذراء»، والأعظم من ذلك كله أنه محقق بارع لكتب التراث، وربما هو من القلائل القادرين على فك رموزها وقراءة طلاسمها، أثر وتأثر في حقبته الزمنية التي أمده الله بها، حتى أصبح رغم أنف الزمان والمكان من أرباب الفكر الإسلامي المتوهج ومن رجال الحضارة الإسلامية، لم يكن مثقفا مزيفا ولم يزاحم العلماء والمفكرين على أماكنهم حينما كان حدثا، حتى تشرفوا بمزاحمته بعد أن تعهد نفسه حتى استوت على سوقها، يكره الضوء والإعلام ولذلك ظل سنوات طويلة في عزلة اختارها لنفسه، يقرأ الأدب الجاهلي ويدرس كتاب الأغاني وزهر الآداب والأصمعيات والمفضليات وكتب التراجم والسير، ولم يتفاصح ولم يتعالم إيمانا منه بأن الأدب ضرورة وليس ترفا وكان يصدح في واحته الظليلة، ولا يسمع غناءه إلا المقربون منه من تلامذته ومحبيه تاركا الدنيا ببريقها وأضوائها وراءه ظهريا، ولم يخرج من صومعته وعزلته التي استمرت احتجاجا على الواقع المؤلم للأديب الحقيقي والمثقف العربي إلا شاكي السلاح مستجيبا لنداء الحق والحرية بعدما أدرك أن ثقافة أمته يتهددها الخطر، فقصم بقلمه الباتر زيف الباطل، وكشف عورات الجهلاء المستترين وراء الألقاب الخادعة؛ وكأني به يصرخ في أركان الكون مرددا جملة من بيت: «... وتعظيمٌ ولاعُظَماءُ».

والعجب أن الأخيرين (العلامة شاكر، والمربي الصالح) قد اجتمعا على حب الأول (الأمير نايف) فقد سجل شيخ العربية أبو فهر محمود شاكر، بمداد من نور في مفتتح سفره القيّم عن المتنبي يوم الأحد 25 من ذي القعدة سنة1397هـ (6 نوفمبر سنة 1977) القاهرة- مصر الجديدة الكلمة التالية في مقدمة كتابه المتنبي، منها: .......... وقد لطف الله بي فردّ عليّ بصري، ولولا لطفه سبحانه لبقي هذا الكتاب في المطبعة ناقصاً لغير تمام، فالحمد لله وحده.

أمّا الرجل الذي أجرى الله على يديه لُطفه بي، واستنقذني بمروءته من العمى، وحاطني حتى عُدتُ بصيراً، فإنّي لا أملك له جزاءً إلاّ الإقرار بفضله، وإلاّ الدعاء له كلما أصبحتُ وأمسيتُ. صديقٌ لا تنام صداقتُه عن أصحابه، ورجل لا تغفل مروءتُه عن غير أصحابه. ثم هو بعدُ غنيّ عن اللقب بمكارم أخلاقه، وفوق كل لقب بسماحة شيَمه: (نايف بن عبد العزيز آل سعود)، ولم يزل منذ عرفته قديماً، يزداد جوهرُه على تقادم الأيام سناً وسناءً، صرّحتُ بذكر اسمه مُطيعا لما يُرضيني، عاصيا لما يُرضيه)...

هذه الجمل الشائقة من عملاق العربية في الحديث عن رجل يتصف بأدب جم وخلق رفيع تتجاوز ما يسمى بالإطراء والمدح المنهي عنه فالأمير نايف شخصية تأسرك في طريقة حديثه واستماعه، إن تحدثت بين يديه فلن يقاطعك وإن أقبلت عليه فلن يغضي عنك وإن توجهت إليه فلن يشيح بوجهه عنك، لقد أدّب نفسه فأحسن تأديبها وتعهدها بالتزام منظومات القيم والأخلاق، فلقب الأمير أطلق كثيرا في التاريخ الإسلامي على من يستحق ومن لايستحق ولكن (أبا سعود) تشرفت به الألقاب والإمارة بسبب صفات جعلته محبوبا من رجالات الدولة ووجهاء المجتمع ولا أدل على ذلك من رسالة وصلتني من الشيخ عثمان الصالح المربي الفاضل رحمه الله بتاريخ 3-4-1423هـ حينما نشرت لي جريدة الجزيرة قصيدة «ثابت كالشموس» بعد رحلته للكشف في أوروبا وكنت في الإمارات العربية المتحدة:

«أخي الأديب د.عبدالله بن ثاني المحترم، رأس الخيمة، الإمارات العربية المتحدة...

بعد التحية،

أخي إن الشعر ديوان العرب قديما وحديثا، وما نشر لكم في الجزيرة من شعر هو موضع التقدير والإكبار والإعجاب، وقصيدتكم البارعة التي وسمت ب»ثابت كالشموس» وجههتها إلى أميرنا الندب، وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز، عنوانها كما ذكرت ومطلعها:

نجمة الفجر ذوبت مقلتيها....

بلظى الظمأى أشعلت شفتيها

وختمتها:

سيدي نايف يقر بعيني...

ثابتاً كالشموس في مشرقيها

عزيزي الدكتور عبدالله: كل قصيدة إبداعية تصف ما نحن فيه من تطلّع وصمود ونشاط فهي جزء من أفكار الأمة تخلد عظمتها القديمة وتنادي بسلوك يوصلنا إلى ما وصلنا من مُثُل... فتحية لك على هذه العصماء التي عبرت كثيرا عن أغراضنا وآمالنا وتطلعاتنا وأفكارنا ومقاصدنا التي فيها بناء الدين والدنيا التي أرجو أن نعبرهما بكل نشاط وإخلاص بتنبؤاتنا وتنبؤات الأمة مما هو لنا قديما وهو مطلبنا حديثا لنكون خير الأمم رسالة في الدنيا والدين وأن نصمد للحوادث صموداً بإذن الله ومشيئته ننتصر به دينا ودنيا ولا يصلح أحدهما بدون الآخر والله ولي التوفيق...».

وما هذه الرسالة سوى أنموذج من رسائل عدة وصلتني من رجالات وقامات كبيرة تحمل قيمة أدبية لا تقدّر بثمن، وأنموذجا لمدرسة معطاءة تساعدنا في تأسيس مجتمع متنور وجيل مسؤول بفضل من توافرت في روحه قيم العدل واحترام حقوق الإنسان والتفاني من أجل الوطن وقيادته الكريمة من أمثال معالي الشيخ عبدالعزيز التويجري وعثمان الصالح وغيرهم، وسافرت بي الذاكرة قبل سنوات حينما قابلت الشاعر راضي صدوق صاحب (الحزن أخضر دائما) في إثنينية الشيخ عثمان الصالح فأسفت على انقطاع تلك الاثنينية وتساءلت: لماذا انقطع امتداد اثنينية الشيخ عثمان الصالح بعد وفاته وكانت تزخر بكثير من الموضوعات والعلماء والأفكار؟ لماذا لم تبعث من مرقدها إلى هذه الساعة والذنب يتحمل جله الأستاذ بندر الصالح ونحن نعرف بره بأبيه؟ أين أهل الوفاء وتلاميذ الشيخ عثمان الذين وفى لهم ليرعوها من جديد تخليدا لذكراه مثلما فعل الأستاذ باجنيد حينما أخذ على نفسه عهدا ووفاء للأستاذ الرفاعي باستمرار ندوته، ومثلما أخذ الأستاذ فايز الحربي على نفسه عهدا ووفاء بامتداد أصبوحة الشيخ حمد الجاسر.. أين هؤلاء باختصار ممن يستحق التكريم من شخصياتنا الوطنية كمعالي الشيخ عبدالعزيز التويجري والمربي الشيخ عثمان الصالح وغيرهم كثير؟ والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد