Al Jazirah NewsPaper Sunday  20/06/2010 G Issue 13779
الأحد 08 رجب 1431   العدد  13779
 
ما الذي بقي من «العراق»..!؟
د. عبد الله مناع

 

لا أظن أن بلداً عربياً.. تَصدُق عليه تلك الطرفة أو «النكتة» التي أطلقها ذات يوم فقيد الصحافة العربية، الكاتب الصحفي المصري الساخر الأستاذ محمود السعدني.. بمثل ما تصدق اليوم على البلد العربي العظيم (العراق)،

الذي ما يزال يتخبط في محنة احتلاله الكبرى التي بدأت منذ التاسع من شهر مارس من عام 2003م وإلى يومنا هذا.. وإلى أي غد مجهول لا يعلمه حتى الرئيس باراك أوباما نفسه.. زعيم دولة الاحتلال.. وإن أعلن في إحدى خطبه - وما أكثرها وأقلها نفعاً لأمم الأرض ودولها- أن نهايته ستكون العام القادم (2011م).. ولكن ليس ب»مغادرة» الجيوش الأمريكية المائة والثلاثين ألفاً للأراضي العراقية، بل ب»تغيير» «اللافتة» التي ستبقى تحتها - ربما إلى أبد الآبدين - من «قوات احتلال» إلى قوات «تطبيق الاتفاقيات الأمنية» الأمريكية العراقية المشتركة، التي قاتل الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، بكل ما أوتي من خداع وتسويف وتخويف من «البعبع الإيراني».. حتى أمكن له توقيعها مع رئيس الحكومة العراقية «نوري المالكي»، بل وتصديقها وبسرعة البرق من البرلمان العراقي.. وهو في شهوره الأخيرة دون انتظار ل»البرلمان» الجديد ليرى رأيه فيها، وهو الذي سيحكم العراق طيلة الأربع أو الخمس سنوات القادمة، فكان توقيع اعتماده لتلك الاتفاقية «الثمينة» وهو يضع قدمه على سلم مغادرته للمكتب البيضاوي.. أعظم إنجازات الطمع الأمريكي الشره في بترول العراق (إذا بسطنا الأمور على هذا النحو المخل بحقائقها المعروفة لكل صاحب بصر وبصيرة)..!!

تقول الطرفة أو «النكتة» - التي أبعدنا السياق عن ذكرها بعض الشيء -: إن رجال الشرطة ألقوا القبض على «مواطن».. كان يقوم ب»توزيع» منشورات ضد النظام، وأنه عندما اقتيد إلى «المأمور».. سأله هذا: ماذا تفعل..؟ فأجاب المواطن: أوزع منشورات..!!

فأقفل المأمور «المحضر» غاضباً.. وأمر بتحويله فوراً إلى «النيابة»، ليسأله وكيلها قائلاً: إن محضر الشرطة الذي أمامي يقول بأنك اعترفت بتوزيع منشورات في الشوارع.. فهل تعرضت من قبل الشرطة لأي تعذيب حتى تدلي بهذا الاعتراف الخطير؟

فقال «المواطن»: لا. لم أتعرض لأي تعذيب من أي نوع.

فأعاد عليه وكيل النيابة سؤاله: إذاً أنت تقوم فعلاً بتوزيع منشورات؟

قال: نعم.

فقال وكيل النيابة وقد رأى بين يدي «المواطن» كومة من الأوراق: أرني هذه المنشورات.؟

فقدم له «المواطن» كومة الأوراق التي بين يديه.. ليأخذ وكيل النيابة في تقليبها، فيكتشف أنها أوراق بيضاء.. لا كلمة واحدة فيها، فيعاود سؤاله: ولكن هذه أوراق بيضاء.. لا كلمة فيها..!؟ أين.. الكلام؟؟

فرد المواطن: أكتب إيه.. واللا إيه.. واللا إيه!!

وهذه هي حال العراق العظيم والتعيس معاً اليوم.. فعن ماذا يتحدث «المواطن» سواء كتب منشوراً أو صاح بأعلى صوته في الشوارع..؟ وعن ماذا يكتب «الكاتب» لو أراد عن العراق..؟ أعن الاحتلال وجنوده.. أم عن الاحتلال وجرائم سجونه..؟! أم عن الأمن المفقود ومشاهد القتل المروعة التي تُصبح وتُمسي عليها مدن العراق الكبرى والصغرى على يد الجنود الأمريكيين مرة، وعلى يد الشرطة العراقية أخرى، وعلى يد الكتل السياسية وميليشياتها المتصارعة مذهبياً على «غنيمة» الحكم.. ثالثة؟.. أم عن الخدمات المفقودة.. والبطالة المتفشية.. وحالات العوز والفاقة التي لم يعرفها العراق وأبناؤه طوال عهودهم الملكية والجمهورية السابقة بحد سواء، ولكنهم عرفوها مع الاحتلال الأمريكي ورايات «الحرية» التي جاء تحت إعلامها، و»الديمقراطية» التي جاء.. يبشر بها، ويصنع منها «مثالاً» يحتذى.. لبقية شعوب المنطقة..؟!!

ولكنني سأبتعد عن كل هذه النقاط الحساسة حتى لا يزداد غضب الأمريكيين العرب داخل العراق وخارجه - الذين ما يزالون رغم كل هذه المآسي التي يعيشها شعب العراق الأبي، ويئن تحت وطئتها وجحيمها - يهتفون ل»الحرية» التي جاء بها الأمريكيون.. ول»الديمقراطية» التي جاء بها المحتلون، إذ لولاهم لما ترأس (فلان) وحكم (فلان).. ولما قامت أحزاب سياسية وصحافة حرة!! وانتخابات تشريعية.. إلى آخر هذه «المعزوفة» التي ملَّ العالم سماعها!!

وسأكتفي - في المقابل - ب»الحديث» والتعليق على «خبرين».. مضحكين مبكيين، شغلا مانشتات الصحف وتصدرا نشرات الأخبار الإذاعية والتلفزيونية خلال الأسابيع القليلة الماضية، كان «الأول» عن أولى جلسات البرلمان العراقي الجديد الذي تم انتخاب أعضائه في السابع من شهر مارس الماضي، والتي عُقدت الاثنين الماضي برئاسة أكبر الأعضاء سناً كما يقضي الدستور والعرف البرلماني بذلك، والتي كان من المفترض أن يقوم النواب الجدد خلالها ب»حلف» يمين الولاء للشعب العراقي، والحفاظ على نظامه، وأمنه، والدفاع عن حريته، والعمل على استقراره.. حسب «النص» الذي وضعه الدستور العراقي (الذي عارضه الجانب الأكبر من العراقيين.. وكانوا على حق، فقد تم التصويت عليه شعبياً من قبل الأمة.. بينما الأمة كلها كانت - وما تزال - ترزح تحت حراب جنود الاحتلال)، بل وكان على تلك الجلسة.. أن تسارع في اتخاذ الخطوات الأولية لانتخاب رئيس المجلس ونائبيه، وأن تضع جدولاً زمنياً لانتخاب رئيس الجمهورية أو الاتفاق عليه بين الكتل البرلمانية، إذ أنَّ على هذا الرئيس الجديد.. مهمة تكليف زعيم أكبر الكتل البرلمانية في المجلس ب»تشكيل الحكومة».. في بلد أحوج ما يكون إلى «حكومة» تنقذه وتنتشله من هذا التردي.

ولكن ما جرى في تلك الجلسة.. كان مثيراً وعجيباً وإلى أبعد الحدود: فقد عقدت جلسة البرلمان بعد مائة يوم من انتهاء الانتخابات وإعلان نتائجها، ولا أحد يملك تفسيراً لهذه الإجازة الطويلة التي منحها النواب الجدد.. لأنفسهم، والتي ملأها السيد نوري المالكي - رئيس الوزراء المنتهية ولايته والذي يصارع من أجل البقاء في كرسي الرئاسة رغم هزيمته الانتخابية - بالمماحكات التي أثارها حول الانتخابات ونزاهتها، والتشكيك في نتائجها.. الذي أدى - بإصراره - إلى إعادة فرز الأصوات مجدداً، فلم تختلف نتائج الإعادة عن سابقتها (تقدم العلاوي وحزبه بصوتين على المالكي وحزبه)، بينما كان هدفها غير المعلن.. تعطيل وصول صاحب الأغلبية - إياد علاوي - إلى رئاسة الحكومة، لكن الأعجب - أن تلك الجلسة وبكل أجندتها هذه.. بدأت وانتهت في خمس عشرة دقيقة!! ولا أدري كيف أمكن للثلاثمائة والخمسة والعشرين عضواً من أداء اليمين في ذلك الوقت الضيق، إلا أن يكون الأعضاء الجدد.. قد أدوا القسم جماعياً وعلى طريقة الكورال الإذاعي الغنائي.. وكل في مقعده، إلا أن الأسوأ حقاً في أداء هذا القسم.. هو أنه كان ب»اللغتين»: العربية والكردية، وهو ما لم يعرفه العراق عن نفسه، ولا يعرفه العالم.. عنه، فهو.. بلد العروبة والعربية.. بلد الشعر والفصاحة العربية.. بلد أبو تمام والسياب والجواهري، وليس بلد «الكردية».. حتى وإن كانت للمجتمع الكردي فيه لغته المحلية الثانية إلى جانب العربية، فما كان يصح بحال أن يؤدى (القسم) باللغتين..!!

ولكن يبدو أن الأمور تسير في اتجاهها «التآمري» الصحيح، فبعد أن أصبح ل»كردستان».. دولة وعلم ونشيد وطني فلابد وأن تصبح له «لغة» معترف بها وطنياً، فهذا هو العراق الجديد.. الذي تريده الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الذين لا يفهمون من أمثالي.. أن يفهموا..!!

لقد كان «الخبر الثاني».. الذي شغل الإعلام بكل وسائله.. يحمل التأكيد على استنتاجي هذا، فقد تمثل في تلك «الدعوة» المثيرة للدهشة التي وجهتها فرنسا «نيكولاي ساركوزي» إلى رئيس إقليم كردستان العراق (مسعود البرزاني) لزيارة فرنسا.. لمدة أربعة أيام(!!) والتي أوضحت مساعدة المتحدث باسم الخارجية الفرنسية (السيدة كريستين فاغ) طبيعتها.. عندما قالت في بيانها ب»أنها زيارة عمل إلى فرنسا بناء على دعوة من الرئيس الفرنسي، يرافقه فيها وفد (دون الإشارة إلى أنه وفد كردي) يضم وزير الزراعة، والطاقة المائية (وليس، البترولية..!!)، ووزير العمل والشؤون الاجتماعية ووزير البلديات والسياحة»، و»أن هذه الزيارة تشكل مرحلة جديدة من عملية إطلاق العلاقات الثنائية بين فرنسا والعراق»!!.. وكأن السيد مسعود البرزاني رئيساً للجمهورية العراقية، وليس رئيساً لإقليم كردستان العراق!!

لقد انتهت الجلسة الأولى للبرلمان العراقي الجديد.. بعد تلك الخمس عشرة دقيقة.. مع إبقائها «مفتوحة» لأحاديث الكواليس - وربما الدسائس - لأجل غير مسمى، دون أن يتمكن البرلمان - طبعاً - من اختيار رئيسه ونائبي الرئيس.. ودون أن «يرشح» فضلاً عن أن «ينتخب» رئيساً للجمهورية ليتولى تكليف صاحب الأغلبية ب»تشكيل» الحكومة، ليبقى العراق بلا رئيس (شرعي) للجمهورية (!!) وبلا رئيس وزراء (شرعي) للحكومة (!!)، كما هو بلا رئيس جديد للسلطة التشريعية.. بينما يقوم السيد مسعود البرزاني في ذات الفترة وليس قبلها أو بعدها بزيارة (دولة) إلى فرنسا ل»بحث العلاقات الثنائية بين فرنسا والعراق»!!

فما الذي بقي من العراق وعروبته..؟ وما الذي بقي ل»بغداد» ودورها التاريخي العربي الحضاري.. بعد أن أخذت (أربيل) عاصمة مسعود البرزاني.. تتقدم الهوينى لتحل محلها..؟!

إن «تفتيت» العراق ل»دولتين» أو»ثلاث».. وهو ما تسعى «إسرائيل» لتحقيقه بسواعد قوات الاحتلال الأمريكي - قبل وبعد تغيير مسماها في أعقاب الانسحاب الأمريكي الاسمي المزمع في 2011م -، والذي يسعد بعض العرب وبكل أسف.. لن يقف عند «العراق» العربي وحده، بل سيمتد إلى آخرين.. فقصة «الثور الأبيض الذي أُكل يوم أُكل الثور الأسود» ما تزال.. حاضرة.. ماثلة في الذاكرة العربية رغم تبلدها..!!

***



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد