Al Jazirah NewsPaper Wednesday  23/06/2010 G Issue 13782
الاربعاء 11 رجب 1431   العدد  13782
 

سيدة المواقف الصعاب

 

لكل إنسان في هذه الحياة غاية يجري إليها، ونهاية ينتهي بها طال أو قصر العمر، كما أن له رسالة في هذه الحياة عليه تأديتها، ومهمة يسعى لينجزها، ومتى نجزت نجز منها، وخلص من أحابيلها.. وكل ذي أمل يسعى إلى أمد.

وفجائع الدهر لا تغفل عن أحد، ولا تنقطع إلى أبد، بل هي بالمرصاد لكل رائح وغاد، تصبحه أو تمسيه..

يا راقد الليل مسروراً بأوله

إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

أفنى القرون التي كانت مسلطة

مر الجديدين إقبالاً وإدبارا

وما العيش من بعد فقد الأحبة سوى غُصص تشجى بها النفس وتشقى..

ويجل المصاب ويعظم الخطب إذا كان الفقيد من القلوب قريباً، بل هو في صميم سويدائها، وعلى النفوس عزيزاً، بل هو آخذاً بلبها، تجتمع الآراء على تقديمه، وتتفق الأفهام على تفضيله.

أذكر هذا وبين عيني مثال يفوز بهذا التوصيف ويستحقه بكل جدارة، بل هذا التوصيف يقصر عن الوفاء بحقه.

وهذا المثال ليس من الرجال، ولكنها امرأة نادرة المثال مروءةً وحلماً، وسماحةً، وبشراً، ومن عرفها عرف فيها معدن الوفاء والصفاء والنقاء وطيب المعشر.

امرأة اجتمع فيها ما تفرق في كثيرين، من مكارم الأخلاق، وشريف الطباع، وعزيز المروءات، وجميل الشيم..

إنها من أولئك النفر القليل الذين يلتذّون طعمَ الجود والبذل والسخاء، فتحُوط كلَّ مُعوز بما يحتاجه منها: إنْ بالرأي والنصيحة، أو بالعطف ودفء الحنان، أو بالبشر والبر، أو بما تيسر من دواء وغذاء..

لقد كانت سمةً بارزةً ورقماً واضحاً في أي مجلس تحضره، أو محفل تشهده، فتنجذب إليها الأنظار، وتألفها القلوب، وتصغي لها الأسماع؛ لكرم نفسها، وخفة روحها، وسلامة فطرتها، وطلاقة محياها، وسماحة وجهها، ورجاحة عقلها، وسعة بالها، وطيب خاطرها، وحلو شمائلها، وصدق لهجتها، وجميل عبارتها، وحسن تشبيهها، وملاحة توصيفها، ولطف محاورتها، وحضور حجتها، وسرعة بديهتها، وقوة عارضتها، وطرافة تعليقها وظرافته..

ولئن كان من النساء ناقصات في أمومتهن فإنها في ذلك وافية الكيل والصاع والمد؛ شفقةً وتحناناً، بل إن أمومتها الغامرة أظهر صفاتها، وأبرز خلالها، وأسمى معانيها، وقلبها الكبير يفيض حناناً وعطفاً لذوي الرحم والصلة والحاجة..

ومما أنضج رأيها، وسمى بنفسها، ونور بصيرتها، وقوى شكيمتها، وزادها إلى حلمها حلماً علاقتها الوثيقة بربها الذي اصطفاها إليه، فقد تصرمت حياتها وهي ترصد لنفسها أعمالاً صالحة مستديمة، فقد كانت تصوم الهواجر وتكابد الأسحار، وتديم الاستغفار، وتحمل الكل، وتجبر الكسير، وتصل الأرحام، وتعطف على الصغار والكبار..

ولئن كان يقال عند الشدائد:

لا تغترر ببني الزمان ولا تقل

عند الشدائد: لي أخ ونديم

جربتهم فإذا المعاقر عاقر

والآل آل والحميم حميم

وهو ينسحب على كثيرين، لا كثرهم الله، إلا أنه يبين عن معدن الأصالة والنفاسة عند آخرين، وبضدها تتبين الأشياء، والوفاء عزيز نادر، فأهله تصح بهم الجموع المتصدعة، وتصفو بهم النفوس المتكدرة، وترتاح لهم الأفئدة العليلة، وتلتئم بهم القلوب المكلومة، وكذلك كانت عمتي الرءوم: حصة بنت موسى بن أحمد البهلال التي داهمتها أزمة قلبية بعد أن صلت ركعتي الضحى، فنقلت من فورها إلى المشفى، ولم يطل بها الأمد، فوافتها منيتها ضحى السبت 8-6-1431هـ وكان آخر كلامها من الدنيا: لا إله إلا الله، فغفر الله لها وتقبلها عنده في الصالحين..

إن من الناس من تنعكس أحزانه على من يحيط بهم، فيرمي عليهم همومه، ويحملهم أثقاله وأوصابه، فتصيبهم عدوى الاكتئاب والقلق والتوتر، فيقلقهم قلقه، ويغشاهم اكتئابه، ويرهقهم توتره..

ومنهم الموفق الذي يسعد به من حوله، فتبتهج نفوسهم بطلعته، وتفرح قلوبهم بلقياه، فبه يزول همهم، ويندفع غمهم، ويهون مصابهم، وتزول أتراحهم، وتعود أفراحهم..

ومن أولئك عمتي حصة الموسى التي كانت ملاذ المهموم وملتجأ المغموم بعد الله - جلَّ جلاله - تسرّي عنه وتسلّيه، وتسلبه أحزانه، وتحمل عنه همه، وتطارد غمه حتى تقصيه وتنفيه، وترسم وبكل مهارة البسمة في وجهه، وكل إناء بالذي فيه ينضح، فينقلب من عندها طيب النفس جذلان كأن لم يصب..

أقلُّ الورى منّاً على بذل مِنَّةٍ

وأكثرُ ما تلقاها عند الشدائد

فهي سيدة المواقف الصعاب، تمتص حزن المحزون عند لقياه، وتتحامل على نفسها، وتترك وراءها دارها وأشغالها، وتلحق بالمصاب في داره - وهي مصابة مثله - فتنزل عليه نزول الغيث على الأرض العطشى، فتحوطه بعطفها ولطفها وطرفتها وابتسامتها، ولا تزال به تطعمه وتسقيه وتضاحكه؛ حتى تنفرج كربته، وتنكشف غمته، وتنجلي مصيبته..

ومما يذكر لها فيكبر ويشكر موقفها حين وافت المنية والدتي الغالية رحمها الله وغفر لها، حيث كان وقع المصاب عظيماً وأليماً، فما كان منها - وهي الموفقة - إلا أن حلت محلها، وشملتنا أنا وإخواني وأخواتي بحنانها، ومكثت قريب الشهر تغمرنا بعطفها، وتدافع أحزاننا بكل ما أوتيت من قوة، فخففت من آلامنا وهونت مصابنا..

وكذلك فعلت بعد وفاة أخي وصفي قلبي سليمان رحمه الله رحمةً واسعة..

لها أيادٍ إلينا سابقةٌ

أعدُّ منها ولا أُعدِّدها

وهكذا صنيعها مع كل قريب لها أصيب..

إن لفظ العمة يطلق على من عمك بخيره وإحسانه وفضله، ولقد كانت هي كذلك وربي، وما كلُّ من يهوى العُلى نفسُهُ تعلُو.

إنها تُشعر كلَّ شخص من قرابتها أنه المقدم لديها، المفضل عندها، بالسؤال عنه إن غاب، والحفاوة به إن حضر، وعيادته إن مرض، والفرح لفرحه، فيظن كل واحد منهم أنه أحب الناس إليها، وأقربهم إلى قلبها، وأكثرهم سعادةً بها، فهي بحر خضم يعم الجميع، ويغمرهم بكل معاني الرحمة والعطاء والحب والوفاء.

وإني أقول - وبكل يقين -: إن عمتي كانت من سعادة الدنيا وبهجتها، وزينة الحياة وجمالها، فللحياة بها قيمة وأي قيمة، ولقد هانت من بعدها وهي هينة، وقلت على إثرها وهي قليلة..

ولئن كان أحدنا يجد إعراضاً من بعض الأقربين فلقد كانت تعوض ما فُقد وتصل ما انقطع، وتخلف ما تلف، فبها العوض، وما عنها عوض..

لقد كانت وفاتها فاجعة موجعة، وكسراً لا ينجبر، وخسارةً لا تعوض، وانتقاصاً لا يكمل، له انخلعت قلوبنا، وكربت نفوسنا، وغشينا عليها الحزن الشديد، فعلى الله نحتسب مصابنا، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا..

وإنما نعبر عن ألمنا لفقدان حظنا منها، وأشواقنا إليها، فهي العزيزة على قلوبنا، المقدمة في نفوسنا، بها نسعد ونأنس، ونفرح ولا نبأس، وإنما فيها يصح قول الأول:

ولو كان النّساءُ كمن فقدنا

لفُضّلت النّساءُ على الرّجال

وما التّأنيثُ لاسم الشّمس عيبٌ

ولا التّذكيرُ فخرٌ للهلال

وأفجعُ من فقدنا من وجدنا

قُبيل الفقد مفقودَ المثال

إنه امرأة حملت رسالتها في هذه الحياة، وأدت أمانتها على التمام والكمال، وتحملت آلام الحياة والأحياء، وصبرت مصابرة الكرام، وغادرت الدنيا مستكثرةً من الجميل، وافرة العرض، محمودة الذكر، طيبة السمعة، طاهرة الأردان..

فاللهم لا تخيب رجاء من هو منوط بك، ولا تصفر كفاً هي ممدودة إليك، وكما أنت أولى بالتفضل فأنت أحرى بالإحسان: الناصية بيدك، والوجه عان لك، والخير متوقع منك، والمصير على كل حال إليك، والشقي من لم تأخذ بيده، ولم تؤمنه من غده، والسعيد من آويته إلى كنف نعمتك، ونقلته حميداً إلى منازل رحمتك..

اللهم فاغفر ذنبها، وأحسن منقلبها، واجعل مثواها الفردوس الأعلى من الجنة، وأحلها النعيم المقيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر..

اللهم واربط على قلوب ذويها وأنزل عليهم الصبر والسلوان والسكينة.

وصل اللهم على خير الورى وآله وسلم تسليماً كثيراً.

خالد بن فهد البهلال

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد