Al Jazirah NewsPaper Thursday  24/06/2010 G Issue 13783
الخميس 12 رجب 1431   العدد  13783
 

الاستلاب المبرمج لمكانة اللغة العربية
د. عبد المجيد بن محمد الجلال

 

اللغة العربية.. لغة القرآن والضَّاد، ورمز الهوية الثقافية والحضارية، وقاعدة النهوض العلمي والمعرفي للمجتمعات الإسلامية والعربية. وأفضل وأكرم لغة على وجه البسيطة.

اللغة العربية.. أكثر لغات الأرض مفردات وتراكيب، ولغة العلم والفن والعقل والروح والصوت والصورة.. كما يصفها الشيخ الدكتور عائض القرني.

هذه اللغة العريقة بمكوناتها وإرثها الثقافي، وتاريخها الذي يمتد لنحو ألفي عام تعاني في هذه الأزمنة من غربة شديدة نسبياً في مَواطنها وديارها، بفعل تقاعس أبنائها عن العناية بها، والمحافظة على مكانتها ورونقها وضيائها الحضاري المتجدد. والوقوف موقف المتفرج أو المتواطئ أمام زحف موجات العولمة والتغريب، وتدفق اللغات الوافدة والأجنبية التي تسللت إلى الدور وأسواق العمل. ناهيك عن إشكالية اللهجة العامية المحلية، واختراقها للكثير من الوسائل والأدوات الإعلامية العربية. بلْه ومطالبة بعضهم باعتمادها لغة تعليمية. إضافة إلى إشكالية الضعف العام في القدرات والمهارات اللغوية الذي يقود إلى مزيدٍ من اللحن والأخطاء اللغوية.

كل ما سبق يسهم في مجموعه في إضعاف اللغة العربية، وتهميش أدوارها الحضارية والمعرفية في حاضر الأُمَّة ومستقبلها.

على أية حال الحديث في هذا المقام يطول ويتشعب، ولعلي أُشير في هذا المقال إلى أحد أبرز تداعيات الاستلاب المبرمج لمكانة اللغة العربية، والذي طال المناهج التعليمية بمؤسسات التعليم العام والعالي، خاصَّة تلك يديرها القطاع الخاص، عبر تسويق البرامج التعليمية باللغة الانجليزية، وفي منافسة بينية حّادة لاستقطاب المزيد من الدارسين والدارسات.

ربما يمكن التعاطي الإيجابي مع هذا التَّوجه التعليمي، إذا تمَّ بالموازاة مع العناية بقواعد اللغة العربية ومفرداتها وتراكيبها، وتقديمها بأساليب وأدوات جديدة ومبتكرة، تسهم في إضاءة المزيد من أنوار المعرفة اللغوية لدى المتلقين، وتدفع بهم إلى النهل المستمر والمتجدد من معين هذه اللغة الخالدة.

بالمقابل لا يمكن التعاطي الإيجابي مع هذا التَّوجه التعليمي بما يخص المرحلة التمهيدية والأولية والإعدادية، فهذه منطقة تعليمية تأسيسية لها خصوصيتها وثوابتها الحضارية والقيمية، بما يجعلها لا تقبل البَّتة وجود لغة أخرى تزاحم اللغة الأم.

عن هذه المرحلة التأسيسية يقول الأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضُبيب في كتابه القيَّم «اللغة العربية في عصر العولمة»: «المرحلة الابتدائية مرحلة تأسيس بالنسبة للطفل في سنه المبكرة، ولذلك فإن التركيز في هذه المرحلة ينبغي أن يكون على الثوابت. وأهم الثوابت في هذه المرحلة : الدِّين واللغة العربية.. فاللغة الانجليزية ليست ثابتاً من ثوابتنا.. وليس من الضروري، بل من المستهجن أن ندخل في خلد طفلنا الصغير أهمية هذه اللغة منذ وقت مبكر، فنساوي بينها وبين اللغة الأم، ونجعله منذ الصغر مرتبطاً بلغة غير لغته.. تمثل ثقافة ليست بثقافته، مما يربكه لغوياً وعاطفياً، ويزعزع ثقته بلغته الأم، ويجعله يتشرب بعض المفاهيم الأجنبية منذ الصغر.. وهذا قد يبقى أثره إلى مراحل لاحقة.. ويؤكد الدكتور الضُبيب أن «نتائج دراسات علمية شملت نماذج من دول العالم المختلفة.. كلها تثبت أن استعمال اللغة الأم، وبخاصة في المراحل الأولى من التعليم أولى وأقدر على الفهم والاستيعاب من استعمال اللغة الأجنبية.. ومن ثم فإنَّ من الشطط الكبير، أن نفرض على أبنائنا تعلم اللغة الانجليزية منذ نعومة أظفارهم.. ونشتّت ذهن هؤلاء الصغار بين لغتين، مما سوف ينتج عنه آثار سلبية عليهم تتمثل في الازدواجية اللغوية التي تجعل اللغة الأجنبية مساوية للغتهم الأم، الأمر الذي يُضعف لديهم الانتماء الوطني والارتباط بالثقافة العربية..

ويخلص الدكتور الضُبيب إلى أنَّ الأجدر بالطفل الصغير أن تُخصّص سنواته الدراسية الأولى لإجادة لغته العربية، والارتباط بثقافته، وتراث أمته، والإلمام بالمهارات الأساسية، ومنها النطق بلسان عربي فصيح، والتعبير بفكر متناسق واضح - انتهى بتصرف.

ومع الأسف الشديد يبدو أنَّ الآلة الدعائية والإعلانية والإعلامية لبعض المؤسسات التعليمية التي يديرها القطاع الخاص لتسويق برامجها التعليمية ذات التطبيق المكثف للغة الإنجليزية، تُدار بصيغٍ احترافية، وقد نجحت هذه المؤسسات إلى حدٍ ما في التأثير على فئام من الآباء والأمهات، وبعض التربويين، بجدوى تعليم أبنائهم وبناتهم اللغة الإنجليزية في المراحل التعليمية المبكرة، والقبول ثمَّ بتكاليفها المرتفعة، وأنَّ ذلك حسب زعمهم هو السبيل إلى إتقان هذه اللغة مستقبلاً.

ولكنَّ هذا الزعم والادعاء غير صحيح، إذ الكثير منِّا قد درس مفردات هذه اللغة في مراحل دراسية متأخرة، بعد مرحلتي: الثانوية أو الجامعية، بلْه وحتى في مرحلة الدراسات العليا، ولم يحل ذلك دون إتقان اللغة الإنجليزية تحدثاً وكتابة وتدريساً. وفي تقديري أنَّ هذا التَّوجه والإصرار عليه، يعكس في الغالب حالة الانبهار والإعجاب بحضارة الغرب الأنجلو سكسونية ولغتها الغالبة. وقد أشار رائد علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته إلى حقيقة التأثير المباشر للحضارة الغالبة على ما سواها، حين قال « أنَّ المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزّيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده».

إضافة إلى ذلك فإنَّ هذه الخطوة سيكون لها إرهاصات خطيرة على مكانة وقيمة اللغة الأم، والعناية المفترضة بقواعدها، وأدوارها التأسيسية المهمة في تعزيز المهارات اللغوية الضرورية للدارسين والدارسات في المرحلتين: الأولية والإعدادية، وتوسيع مداركهم لاستيعاب المزيد من قواعد لغتهم. وبما يؤسس لقاعدة صُلبة تسمح بتحقيق نقلات نوعية مستقبلية في مجال الإلمام بعلوم اللغة ومعارفها، وتعزيز القيمة العالية لهذه اللغة الخالدة لدى الفرد والمجتمع. عوضاً عن إشغال أبنائنا وبناتنا ذهنياً وفكرياً ودراسياً بمناهج ومقررات لغة أخرى لم يحن أوانها بعد.

بالمحصلة النهائية ينبغي أن ندرك غاية الإدراك أهمية تنشئة أبنائنا وبناتنا، خاصة في مرحلتي التأسيس، وفق برامج دراسية وتعليمية تُعنى كل العناية بالدِّين الحنيف وباللغة العربية، فهما سبيلنا إلى بناء المزيد من الأدوار الحضارية، والرقي بإرثنا الثقافي الضارب أطنابه في أعماق هذه الأرض المباركة.

والكلمة الأخيرة في هذا المقام والمقال لشاعر النيل حافظ إبراهيم الذي نظم أبياتاً خالدة بلسان اللغة العربية تتحدث عن صدفاتها، ومحاسنها العالية، وإنَّ العزة بحفظها وإعزاز قناتها، والخيبة والذل بهجرانها، وتغريبها، وتفضيل اللغات الأخرى عليها. لعلَّنا نجد في أبياتها بعض السلوى. وقد اخترت من هذه القصيدة الأبيات التالية:

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ

فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتبْلى مَحاسِني

وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي

فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني

أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحينَ وَفاتي

أَرى لِرِجالِ الغَربِ عِزّاً وَمَنعَةً

وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ

أَتَوا أَهلَهُم بِالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً

فَيا لَيتَكُم تَأتونَ بِالكَلِماتِ

أَيُطرِبُكُم مِن جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ

يُنادي بِوَأدي في رَبيعِ حَياتي

وَلَو تَزجُرونَ الطَيرَ يَوماً عَلِمتُمُ

بِما تَحتَهُ مِن عَثرَةٍ وَشَتاتِ

سَقى اللَهُ في بَطنِ الجَزيرَةِ أَعظُماً

يَعِزُّ عَلَيها أَن تَلينَ قَناتي

حَفِظنَ وِدادي في البِلى وَحَفِظتُهُ

لَهُنَّ بِقَلبٍ دائِمِ الحَسَراتِ

وَفاخَرتُ أَهلَ الغَربِ وَالشَرقُ مُطرِقٌ

حَياءً بِتِلكَ الأَعظُمِ النَخِراتِ

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد