Al Jazirah NewsPaper Friday  25/06/2010 G Issue 13784
الجمعة 13 رجب 1431   العدد  13784
 
التأمين الصحي في إقليم شرق المتوسِّط: أهدافه.. واقعه.. وآفاق تطويره
بقلم د. حسين عبدالرزاق الجزائري *

 

يهدف التأمين الصحي أو الضمان الصحي بأشكاله المختلفة إلى حماية الأفراد والأسر من مخاطر المرض، ومما يمكن أن ينجم عنها من نفقات باهظة تثقل كاهل المريض وأسرته، وتؤدي في بعض الأحيان إلى إفقاره، كما يؤدي التأمين الصحي دوراً مهماً في تنمية المجتمعات،

وذلك من خلال المساهمة في الارتقاء بصحة الأفراد، ومن ثم في الدور الذي تؤديه الصحة في التطور والنمو الاقتصادي والاجتماعي.

ويشكل التأمين الصحي أحد مقومات الحماية الاجتماعية التي تسعى الدول لتوفيرها لشعوبها، وتعرف الحماية الاجتماعية بأنها مجموع الخدمات التي توفرها الدولة لجميع الأفراد والأسر في المجتمع، بهدف حمايتهم من الأشكال المختلفة للحرمان التي من الممكن أن تحل بهم وبمواردهم، نتيجة لبعض المخاطر التي قد تواجههم في حياتهم. وتجسد أنظمة الضمان الاجتماعي المعمول بها في الدول المختلفة، طبيعة السياسات العامة المتبعة لتوفير المستوى المطلوب من الحماية الاجتماعية المنشودة لفئات المجتمع المختلفة. وبالإضافة إلى ما هو ضمان صحي، فإن أنظمة الضمان الاجتماعي قد تشتمل أيضاً على: نظام للتقاعد لكبار السن، ونظام لرعاية الحوامل والمعوقين والمصابين بعجز بدني بسبب العمل، وكذلك على نظام لحماية العاطلين عن العمل. وتعتمد الدول مجموعة من السبل المختلفة لتمول أنظمة الضمان الاجتماعي الخاصة بها، وذلك إما عن طريق تجميع مساهمات اجتماعية تدفع من قبل الأفراد والمؤسسات، وإما عن طريق تمويل هذه الأنظمة من ميزانية الدولة العامة، معتمدة في ذلك على مجموع مصادر خزينة الدولة من جباية واستثمار ومبادلات تجارية.

تتمحور هذه الورقة حول التأمين الصحي. وتهدف إلى تقديم تعريف لمبدأ التأمين، وأشكاله المختلفة. وتتطرق إلى مواءمة أشكال التأمين المختلفة مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي لدول إقليم شرق المتوسط على اختلاف مستويات تطورها وتركيباتها الاجتماعية. والمأمول من خلال هذه المقدمة إزالة اللبس حول ماهية التأمين، وأشكاله، وتوضيح الهدف الأساسي من تطوير أنظمة التأمين الذي ينص على توفير مستوى لائق من الحماية الاجتماعية لجميع شرائح المجتمع المختلفة. كما تتطرق هذه الورقة إلى الخطوات التي من شأنها أن تسمو بالتأمين والحماية الصحية إلى مستوى التغطية الشاملة.

يعد التأمين الصحي أحد أهم آليات التمويل في القطاع الصحي. وتقسم آليات التمويل في القطاع الصحي إلى فئتين رئيسيتين: التمويل المباشر، المبني على النفقات النثرية التي يدفعها مستخدمو الخدمات الصحية عند طلب هذه الخدمات، والتمويل المبني على الدفع المسبق، على شكل اشتراكات أو مساهمات شهرية أو سنوية، تدفع من قبل الشخص المغطى بالتأمين، وغالباً بالمشاركة مع رب عمله. وينتمي التأمين الصحي إلى آلية التمويل الثانية. وتشير الأدلة إلى أن زيادة الإنفاق المباشر للأسر على الخدمات الصحية والطبية يشكل مؤشراً هاماً على النقص في عدالة إتاحة الخدمات في النظام الصحي، وبالتالي إلى تراجع الحماية الاجتماعية في الميدان الصحي. وذلك لأن الإنفاق المباشر على الخدمات الصحية من شأنه أن يُثقل كاهل الفرد وأسرته، ويؤدي في بعض الأحيان إلى إفقاره. ومن ثم فإن نُظم التأمين الصحي تعتمد بشكل أساسي على مبدأ الدفع المسبق، وتسعى للإسهام في التخفيف من مقدار النفقات النثرية التي تدفع بشكل مباشر من الموارد المتوافرة للفرد والأسرة. وتعتمد آلية عمل التأمين على إتاحة الخدمة الصحية للشخص المغطى بالتأمين عند الحاجة لها - شخصياً أو ممن يعيلهم من أفراد الأسرة - بشكل مجاني أو شبه مجاني. وفي حال كون متلقي الخدمة يساهم بدفع مبلغ معين (لا يتم تعويضه له لاحقاً) عند الحاجة للخدمة، فإن هذا المبلغ غالباً ما يكون رمزياً، ويهدف بالأساس إلى ترشيد استخدام الخدمات الصحية، والحد من هدر الموارد الشحيحة.

يعتمد نظام التأمين الصحي على مبدأ تقاسم أعباء التكلفة من خلال مساهمة كل شرائح المجتمع، بما في ذلك الأغنياء وغير الميسورين، كل حسب إمكانياته؛ وكذلك على مبدأ تقاسم المخاطر بين الأصحاء والمحتاجين للخدمات الصحية. وكلما زادت القاعدة السكانية للتأمين الصحي قلت الأعباء المالية على المنتفعين بخدماته، وزادت كفاءة النظام وعدالته. ويرتكز التأمين الصحي على مبادئ القيم الإنسانية، المتمثلة بالعدل الاجتماعي، والتضامن بين مختلف الطبقات والشرائح في المجتمع؛ وكذلك على التآزر الاجتماعي الذي تؤكده حضارتنا العربية الإسلامية العريقة عبر تاريخها الطويل، وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف. وتعتبر الصحة بمفهومها الشامل الذي حدده دستور منظمة الصحة العالمية أحد الحقوق الأساسية للإنسان، كما أشارت لذلك المواثيق العالمية.

ولنُظُم التمويل في القطاع الصحي بشكل عام ثلاث وظائف رئيسية، يجب على أي نظام تأمين صحي أن يعمل على توفيرها بأعلى قدر ممكن من الكفاءة والعدالة. وتتمثل هذه الوظائف بما يلي: حشد الموارد، وتجميعها، وتوزيعها لشراء الخدمات. وتتمايز أنظمة التمويل الصحي فيما بينها في النواحي التنظيمية لهذه الوظائف الثلاث. إذ تهدف وظيفة حشد الموارد إلى تحصيل الكم الكافي من المصادر المالية، وبشكل دائم ومستمر، وبأسلوب كفء وعادل، يمكِّن الدول من توفير سلة خدمات أساسية لمواطنيها وأفرادها، مع توفير الحماية المالية اللازمة من مخاطر الإفقار التي قد تصاحب المرض. أما وظيفة تجميع الموارد فتهدف إلى إدارة الموارد التي يتم حشدها والعمل على تقاسم المخاطر بين الشباب من ذوي الاحتياجات الطبية المحدودة، وبين كبار السن الذين تزيد احتمالات تعرضهم للمخاطر الصحية، وبين الأغنياء والفقراء، وكذلك بين المنتجين والمُعالين. أما بالنسبة للوظيفة الأخيرة لنظم التمويل الصحي، والمتمثلة بشراء الخدمات الصحية، فتهدف إلى توزيع المورد بطريقة إستراتيجية، تعمل على تعظيم الكفاءة الإنتاجية والتوزيعية لعملية الشراء. وتتمثل وظيفة توزيع الموارد لشراء الخدمات بشكل أساسي، في إدارة التعاقد مع مقدمي الخدمات الطبية، سواء أكانوا في القطاع العام، أم الأهلي، أم الخاص، وفي تحديد آليات الدفع المصاحبة لتقديم الخدمة - ويرى البعض أن الإدارة الملائمة لهذه الوظيفة من شأنها أن تشكل المنبع الأساسي لزيادة كفاءة النظام التمويلي وعدالته.

إن تطبيق التأمين أو الضمان الصحي يتم من خلال أحد النماذج التالية - أو من خلال توليفة لمجموعة منها: النظام الوطني الذي تديره الدولة، ونظام التأمين الصحي الاجتماعي، ونظام التأمين الصحي المجتمعي، ونظام التأمين الصحي الخاص ذي الصبغة التجارية.

ففي المملكة المتحدة ودول أوروبا الشمالية وعدد من الدول الصناعية والنامية، يتم التأمين الصحي الشامل من خلال نظام وطني تديره الدولة، وتوفر موارده المالية من خلال الجباية والثروة الوطنية. وقد اعتمدت دول الخليج العربي هذا النظام الذي تم تطبيقه على كل من يعيش ضمن حدود الدولة في البداية، ثم تم استثناء العمالة الوافدة في بعض البلدان - وأصبحت تغطيتها تتم في بعض الأحيان من خلال شركات تأمين صحي خاصة. ويمكن رؤية هذا النمط للتأمين الصحي حالياً في أكثر من مئة دولة من دول العالم المختلفة. ويتوقف نجاح نظام التأمين الصحي الوطني على توفر إدارة مركزية فاعلية، وعلى التمتع بقدرة اقتصادية لا بأس بها للدولة، تكون قادرة على تمويل أولئك الذين لا يتمكنون من المساهمة في نظام الجباية المعمول به في البلد، بسبب أوضاعهم الاقتصادية الهشة. وبالرغم من شمولية هذا النمط من التأمين، من ناحية مقدرته على تغطية جميع أفراد المجتمع (من الناحية النظرية على الأقل) - حيث إنه من المفترض أن هذا النمط من التأمين يعمل على شمل جميع أفراد المجتمع ضمن نفس الصندوق أو الجمعية «Pool» - إلا أن معظم الدول التي تعتمد على نظام التأمين الوطني تتميز بوجود أكثر من صندوق، وربما لم يتجانس بعضها مع بعض. ومن مظاهر قوة نظم التأمين الوطني قدرتها على الاعتماد على أكثر من مصدر لحشد الموارد، مثل الجباية والثروة الوطنية والمصادر العامة وغيرها. ويُمَكِّن الاعتماد على نظام التأمين الوطني الدول من التحكم بمصاريف الصحة في البلد بسهولة ويسر أكبر مما هو الحال عند الاعتماد على أنماط تأمينية أخرى. ولعل أهم سلبيات هذا النمط من التأمين الصحي في الدول الغربية كونه سريع التأثر بالمنازعات والمنافسات السياسية داخل حلبة المجادلات الوزارية، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى عدم الاستقرار وغياب التوازن في المصادر المالية المتوافرة للقطاع الصحي.

أما النموذج الثاني من نماذج التأمين الصحي، والمسمى بالنظام البيسماركي نسبة إلى المستشار الألماني بيسمارك، فهو ما يعرف بالتأمين الصحي الاجتماعي. ويعتمد هذا النمط من التأمين على المشاركة المالية من قبل العاملين في القطاعات الاقتصادية المختلفة وأصحاب العمل، سواء كانوا ممن ينتمون إلى مؤسسات خاصة أو حكومية. ويمكن رؤية هذا النمط من التأمين في أكثر من ستين دولة، تمكَّن قرابة نصفها من الوصول إلى أحد أشكال التغطية الشاملة. وغالباً ما تتم إدارة هذا النمط من التأمين من قبل مؤسسة مستقلة أو شبه مستقلة، تتحمل مسؤولية تجميع الموارد التي يتم حشدها، ومن ثم توزيعها لشراء الخدمة المطلوبة. وترتبط آلية عمل هذا النمط من التأمين الصحي بوجود سلة من الخدمات التي يتم تحديدها ليتم توفيرها لجميع الأفراد المشمولين بالتأمين. ويتميز هذا النمط من التأمين بكونه تأميناً إلزامياً (كما هو الحال في التأمين الوطني) لجميع أفراد المجتمع، أو لفئات محددة منه، يمكن حصرها وتمييزها بفضل طبيعة القطاع الاقتصادي الذي تنتمي إليه (كموظفي القطاع العام، مثلاً) أو طبيعة عملها (كالعاملين في قطاع صناعي معين). ويطبق هذا النظام في العديد من البلدان الأوروبية، وكندا، واليابان، وغيرها من البلدان الصناعية والنامية. وتسعى الكثير من الدول إلى إدخال هذا الشكل من أشكال التأمين لتمويل الخدمات الصحية المقدمة لأفرادها. كما يطبق هذا النظام، ومنذ ستينات القرن الماضي، في عدد كبير من بلدان دول إقليم شرق المتوسط، ذات الدخل المتوسط وحتى الضعيف. ومن أهم مظاهر قوة هذا النمط من التأمين هي المقدرة على حشد مقدار أكبر من الموارد للقطاع الصحي، مقارنة بالتأمين المجتمعي أو الخاص، وفي بعض الأحيان حتى التأمين الوطني (في حال سيطرة الأجندات السياسية وتحيزها لمصلحة قطاعات اقتصادية واجتماعية أخرى غير الصحة). ويتمتع نظام التأمين الاجتماعي كذلك بمحدودية التدخل المباشر من قبل الدولة، والتي من الممكن أن تلعب دوراً رئيساً في تمويله، ومن زيادة الولاء من قبل الأفراد. ومن سلبيات هذا النظام للتمويل الصحي تحفيزه للزيادة المتسارعة في تكلفة الخدمات الصحية، وكونه معرضاً لإقصاء بعض الفئات المهمشة في المجتمع، وبالأخص الفقراء وأولئك المنتمين إلى القطاع غير المنظم.

أما نظام التأمين المجتمعي، فيطبق أساساً في البلدان الفقيرة، وتلك التي لا تتوافر فيها قاعدة اقتصادية رسمية كبيرة تمكن الدولة من توفير التغطية الجيدة. علماً بأن هذا النمط من الضمان الصحي يبقى غير إلزامي، ويمول أساساً من مشاركة أفراد المجتمع المحلي. وتتم إدارته محلياً من خلال مؤسسات غير ربحية. وتقدم الخدمة من خلال نظام تعاقدي مع العاملين الصحيين في القطاعين العام والخاص. وتبقى التغطية من خلال هذا النظام ضعيفة إقليميا وعالمياً، ولكنه بشكله البسيط، يمكن أن يشكل الخطوة الأولى باتجاه تأسيس نظام تأمين اجتماعي متين. ومعظم الدول التي يسود بها هذا النمط من التأمين، هي تلك التي تحاول أن تتخلص من المساهمات المباشرة للمرضى، وتسعى إلى الإدخال السريع لشكل من أشكال الحماية الاجتماعية.

أما نظام التأمين الصحي الخاص، فيتم من خلال مشاركة المنتفعين وأرباب العمل في صندوق خاص هدفه الربح. وكثيراً ما تعتمد هذه الصناديق إلى انتقاء المنتسبين، باستبعاد كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة. ويوجد هذا النظام في أمريكا كنظام رئيس للتغطية الصحية، وفي كثير من البلدان ذات النظام الوطني أو التأمين الاجتماعي، كنظام تكميلي. وتشتمل المهام المنوطة بتطوير نظام تأمين صحي خاص على: تحديد ماهية الخدمة الصحية المقدمة، وخصائصها، وآليات الترويج لها، وأساليب تجميع رسوم التأمين ومشاركات المتمتعين بتغطية التأمين، وطرق إدارة المطالبات والخطر. ويبقى التأمين الصحي الخاص، كأحد أنماط التمويل، أفضل من التمويل المبني على أساس الدفع المباشر، ولكنه يساهم بشكل كبير في زيادة المصاريف الصحية، يمتاز بارتفاع تكلفته الإدارية، ويسهم في الكثير من الأحيان في زيادة الإجحاف الاجتماعي وترسيخ اللا عدالة.

لقد أشارت أدبيات منظمة الصحة العالمية إلى أن توفير العدالة والإتاحة الشاملة للخدمات الصحية هي أحد الأهداف الرئيسة للنظم الصحية. وقد وضعت آليات لقياس عدالة التمويل من خلال مسوحات الإنفاق الصحي للأسر والحسابات الوطنية للصحة. وقد تم كذلك الترويج لدراسات تقدير مستوى الإنفاق الفادح للأسر على المرض، ومخاطر الإفقار بسبب الإنفاق على المرض. ويتم تقييم وظيفة التمويل العادل للنفقات الصحية من خلال عدد من المؤشرات التي تعتمد على نسبة النفقات النثرية الأسرية على الخدمات الصحية والطبية من مجموع الإنفاق، وكذلك على نسبة النفقات العمومية على التنمية الصحية، ومؤشر عدالة الإنفاق، ومستوى الإنفاق الفادح على الخدمات العلاجية والافتقار بسببها. ويتم تقييم الإنفاق الصحي كذلك بقياس معايير الجودة في الخدمات الصحية، وتوفير العدالة في إتاحة الخدمات، وتحسين الكفاءة الاقتصادية لنظام التأمين الصحي.

وتشير الدلائل إلى أن التغطية الحالية للتأمين بأشكاله المختلفة تتفاوت بين دول الإقليم بتفاوت المستوى الاقتصادي لهذه الدول. فبينما نجد تغطية لا تتجاوز العشرين بالمئة في معظم الدول ذات الدخل المنخفض، تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي الست وليبيا بالتغطية الشاملة لجميع مواطنيها. أما الدول ذات الدخل المتوسط، فتتراوح التغطية والحماية الصحية فيها بين ما يقارب الثلث كما هو الحال في المغرب وبين أكثر من 80% كما هو الحال في تونس والأردن وإيران.

وتشير مسوحات الإنفاق الأسري إلى الدور المهم الذي تحتله المصاريف الصحية في ميزانية الأفراد والأسر، مما يؤثر سلباً على مستوى الحماية الصحية المتوافرة لها. أما بالنسبة للإنفاق الفادح للأسر، والذي تعرفه منظمة الصحة العالمية على أنه كل إنفاق مباشر يتجاوز الأربعين بالمئة من الميزانية المتاحة للفرد والأسرة، فتشير الدراسات الحالية التي تم إنجازها في بعض دول الإقليم إلى ارتفاع هذه النسبة في بعض الدول، وإلى ثباتها بالرغم من العديد من المحاولات للحد منها. وتشير الدلائل إلى أن هذا المستوى العالي من الإنفاق على الصحة بالطريقة المباشرة يؤدي في أغلب الحالات إلى الاستدانة من الأقارب وإلى بيع بعض الممتلكات، مما قد يتسبب في إفقار الأسرة. وتدل الدراسات التي أجريت في كل من الأردن وتونس وإيران والمغرب وفلسطين إلى أن نسبة الأسر التي تواجه مثل هذا المستوى من الإنفاق على الصحة تتراوح بين 0.6 - 4.5 % من مجموع الأسر. أما تلك الأسر التي تقع فريسة الإفقار نتيجة للمصاريف الصحية تتكبدها فتتراوح نسبتها بين 0.3 % و 1.4 %.

ثم إن تمويل النفقات الصحية في بعض دول إقليم شرق المتوسط يعاني من بعض السلبيات التي تتمثل في ما يلي:

أولاً: ضعف التغطية بالتأمين الصحي حيث لا تشمل مظلة التأمين إلا العاملين في القطاع الاقتصادي ذي البنية القوية، والمتواجد أساساً في المدن. هذا باستثناء دول الخليج العربية وليبيا، حيث التغطية شاملة لكل المواطنين. وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن نصف مواطني الدول العربية لا يتمتعون بنظام للتأمين الصحي.

ثانياً: ارتفاع نسبة المصاريف النثرية للأسر، بالنظر للإنفاق العام على الخدمات الصحية والعلاجية.

ثالثاً: ظاهرة تزايد الأعباء الصحية على الأسر، وتراجع الإنفاق العام كنسبة من الإنفاق الكلي على الخدمات الصحية والطبية رغم الزيادات في الميزانيات العمومية.

رابعاً: ضعف الاستثمار في الصحة، حيث إن نصيب الإقليم من الإنفاق العالمي على الخدمات الصحية لا يتعدى أربعة بالمئة من مجموع إنفاق العالم لثمانية بالمئة من سكان العالم.

وتدعو منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع الشركاء الدوليين، وخاصة مكتب العمل الدولي، الدول الأعضاء إلى توفير تغطية صحية شاملة لكل المشاركين دون عوائق مالية عند الحاجة للخدمات الصحية والطبية. وقد عمد التحالف العالمي لتطوير الحماية الاجتماعية في الميدان الصحي إلى الترويج لأساليب التمويل المبنية على الدفع المسبق.

إن السعي لتوفير تغطية صحية شاملة يمثل أحد الأهداف التي أقرتها منظمة الصحة لإعادة تفعيل إستراتيجية الصحة للجميع من خلال الرعاية الصحية الأساسية، والتي أكد عليها إعلان قطر الذي تم اعتماده من قبل كل وزراء الصحة بإقليم شرق المتوسط.

وبعد، فإن الاتجاهات الإستراتيجية لتوفير التغطية الصحية الشاملة، وإصلاح نظم تمويل الخدمات الصحية تركز على ما يلي:

- توافر البراهين والبينات المتعلقة بالإنفاق على الخدمات الصحية من خلال مسوحات أسرية تركز أساساً على مقدمي الخدمات (القطاع العام، القطاع الأهلي، والقطاع الخاص)، وعلى إنفاق الأسر، والخدمات التي يتم شراؤها. ولا يخفى أن توافر شفافية أكبر في هذا الميدان سيساعد صانعي القرار على صياغة بدائل جيدة لتمويل القطاع الصحي.

- الدعوة لمزيد من الاستثمار في التنمية الصحية من خلال زيادة الإنفاق العام، ويتم ذلك من خلال حوار سياسي يتم بفضله تعريف وزارات التخطيط والمالية بالإقليم بأهمية العائد الاقتصادي والمالي للاستثمار في الصحة.

- تطوير التغطية بالدفع المسبق من خلال نظم للتأمين والضمان الصحي، وذلك من خلال القيام بدراسات جدوى في البلدان التي لا يتوافر فيها نظام للتأمين الصحي، والعمل على توسيع مظلة التأمين الصحي القائم في بعض البلدان لتشمل مختلف الشرائح الاجتماعية، بما في ذلك العاملين في القطاع الاقتصادي التقليدي وغير المهيكل، والقطاع الفلاحي، وسكان المناطق الريفية والنائية والفقراء.

- العمل على تحسين الكفاءة الاقتصادية لنظام التغطية الصحية، وذلك من خلال تطوير النظم الصحية المبنية على الرعاية الصحية الأولية، وتوزيع الموارد البشرية في القطاع الصحي بشكل أكثر عدالة، وكذلك ترشيد استعمال التقانة الصحية والطبية، بما في ذلك اللقاحات والأمصال والأدوية ووسائل التشخيص الطبي.

ولعل من أهم أسباب نجاح الدول التي انتقلت إلى إحدى أساليب الدفع المسبق لتمويل الخدمات الصحية لمواطنيها، وتمكنت من الوصول إلى التغطية الشاملة، هو وجود الإرادة السياسية للدولة، والرغبة الملحة للتغير من قبل أفراد المجتمع. هذا بالإضافة إلى الشوروية governance الفعالة والقيادة القوية. ولضمان النجاح، فإن أي تغيير يجب أن يأخذ بعين الاعتبار رغبات الشعوب وأفضلياتها. ومما تجدر الإشارة إليه هو أن أي تغيير لا يمكن أن يرى النور إذا لم تسعَ الدول إلى حشد المورد اللازمة لتطبيقه، ولن يكون ذلك بدون زيادة استثمار الحكومات في القطاع الصحي، وزيادة الدعم المالي من قبل المانحين، مع المحافظة على استقراره وثباته. ويتمثل الدور الحكومي في زيادة ميزانية وزارة الصحة والإنفاق العام بصورة مباشرة وغير مباشرة على الصحة، عبر المساهمة في أنظمة الضمان الاجتماعي والاستثمار في المحددات الاجتماعية للصحة.

أما دول الإقليم ذات الدخل المرتفع، والمتمثلة بشكل أساسي بدول مجلس التعاون الخليجي وليبيا، فإن عليها أن تعمل على الحفاظ على الأنظمة الوطنية المعمول بها حالياً، والتي توفر عدالة أكثر في إتاحة الخدمات الصحية، وتغطية شاملة من خلال الموارد العامة، على أن يتم العمل على ترشيد استعمال الخدمات الصحية من خلال مساهمة المنتفعين، ومن خلال إدارة جيدة للموارد الصحية. إن هذا التوجه لا يتنافى مع تطور النظم التأمينية الخاصة التي توفر نظاماً أساسياً لبعض العمالة الوافدة، وكذلك نظاماً تكميلياً للمواطنين. إن الانتقال من النظام الوطني الذي توفره دول مجلس التعاون من خلال المؤسسات الحكومية (وزارات الصحة، والدفاع، والداخلية، الخ..) إلى نظام تأميني تشاركي على الطريقة البيسماركية، أو من خلال نظم التأمين الخاصة، من شأنه أن يؤدي إلى تبعات مالية كبيرة لإدارة منظمة التأمين الصحي، إضافة إلى الإضرار بمبدأ العدالة في تقديم الخدمات الصحية لكل المواطنين.

ويتم تحقيق الحقوق الأساسية للإنسان في التعليم والصحة والعمل من خلال تفعيل دور الدولة، ووضع التشريعات اللازمة لبناء المؤسسات التأمينية وإدارتها. ولقد كان العالم الإسلامي سباقاً في هذا الميدان، حيث كان بيت مال المسلمين يتكلف بالفقراء والمحتاجين، وتتولى المستشفيات أو البيمارستانات الرعاية الصحية والطبية المجانية لكل من يحتاجها.

أما دول الإقليم ذات الدخل المتوسط، فإن العمل على ترويج أنظمة التأمين والضمان الصحي على شاكلة النموذج البيسماركي فيها، من شأنه أن يعزز من إتاحة الخدمات الصحية لأكبر شريحة ممكنة من المجتمع. ولقد قامت منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع الشركاء الدوليين ببعض دراسات الجدوى لإنشاء منظومات للتأمين الصحي الاجتماعي في بعض الدول ذات الدخل المتوسط.

وأما دول الإقليم ذات الدخل المنخفض، فيجب على حكوماتها أن تعمل على تعزيز الاستثمار في الصحة من خلال زيادة إنفاقها العام، ومن خلال العمل على الترويج لأنظمة تأمينية على شاكلة النظم المجتمعية.

إن حكومات الإقليم، من خلال وزارات الصحة، مدعوة للقيام بدور محوري لتوفير حق المواطنين في الصحة، من خلال تغطية شاملة يوفرها نظام تأميني يتكيف حسب وضعية كل بلد. ومن الضروري أن تبادر البلدان بتقييم نظم تمويل الخدمات الصحية، آخذة بعين الاعتبار جودة الخدمات، وعدالة المشاركة في الإنفاق، والكفاءة الاقتصادية، والتركيز على الخدمات الوقائية والتعزيزية للصحة.

ومن هنا، فإن الهدف الأساسي وراء التوجه إلى أنظمة التأمين الصحي كمصدر رئيسي لتمويل الخدمات الصحية المقدمة في بلد ما، يتمثل في الحد من الآثار السلبية المرافقة للدفع المباشر لتلقي هذه الخدمات. إن الأشكال المختلفة للدفع المسبق، وبالرغم من اختلافها في الشكل والمضمون، فإنها لا تتمايز بشكل جوهري من ناحية أفضليتها في توفير الحماية الاجتماعية المنشودة مقارنة مع الدفع المباشر. ومما قد يحدد أفضلية إحدى هذه الأشكال التأمينية على منافسيها، مجموع الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والصحية للبلد المعني وقدرته الإدارية. وانسجاماً مع الاتجاهات الإستراتيجية لتطوير تمويل الخدمات الصحية بالإقليم، ستعمل المنظمة لمساعدة الدول على بلوغ هدف التغطية الصحية الشاملة بصفة تدريجية. وتبقى الدولة هي المسؤول الأول عن إنشاء وتوفير نظام للتأمين أو الضمان الصحي بالنظر لواجباتها الدستورية.

* المدير الإقليمي: منظمة الصحة العالمية - منطقة شرق البحر المتوسط


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد