Al Jazirah NewsPaper Sunday  04/07/2010 G Issue 13793
الأحد 22 رجب 1431   العدد  13793
 
سيمفونية البجع الحزين
عبدالله بن ثاني

 

لم تغادر ذاكرتي صورة عصفور صغير في قصيدة الشاعر العراقي جواد الخطاب، حينما بنى عشّه في خوذة جندي ميِّت من بقايا معركة ربما كانت إرضاءً لجبروت طاغية أو جنون دكتاتور، بعدما ضاقت به الأرض بما رحبت..

... بسبب تصرفات الإنسان والعسكرتاريا وآلاتها التي لا ترحم التضاريس وكائناتها، صورة كارثية موجعة تختصر كل تفاصيل التراجيديا وشخوصها التي تولاها الإنسان ضد الحيوان منذ أن اخترع قصة العصا وربط بطرفها حبلاً صغيراً تتدلى منه جزرة، فركب ذلك الطاغية حماراً حروناً ومدّ العصا أمامه، فسار الحمار طائعاً مختاراً للحصول على الجزرة، ومازال يسير منذ آلاف السنين ...

حينما لا يجد عصفور موطأ قدم في أرض كان التاريخ يطلق عليها أرض السواد بسبب تشابك الأغصان والعشب، فنحن أمام قضية تستعصي على من هم أمثال أبي الحسن الذي ورد في المثل العربي، وحينما تظلم سماء السواد الذي طالما ملأت شموسه الأرجاء، وتشح ألحان السياب في أنشودته عن المطر فنحن، وكل صلوات الاستسقاء من أجل العطش الذي شقق الأرض وطوح بالتراب أيضاً في يباب أقسى من يباب ت. س. أليوت، وحينما يتلوّث دجلة الخالد ويستعصي على الجريان ربما احتجاجاً وطالما غذى حدائقه المعلقة وغير المعلقة، فنحن والعروبة في دمعة حرى أشبه بدمعة عين ويل ديورانت صاحب كتاب «قصة الحضارة» وهو يملأ قبضته من ماء دجلة، وتساءل: هل هذا هو الماء ذاته الذي توضأ منه خلفاء وفرسان وصوفيون؟ وهل هو الماء الذي أرضع العذارى الخالدات من أشجار النخيل التي إن انحنت ماتَتْ؟

إن صورة ذلك العصفور وهو لا يجد عشاً آمناً، لا تختلف عن صورة البجع وهو مطليٌّ بالقار وقد تناقلتها وسائل الإعلام قبل أسبوعين، والإنسان الحقيقي يشعر بحجم الكارثة البيئية التي تعرّضت لها الكائنات في خليج المكسيك ولم تعرضها شاشات التلفزة ولم تعلم عنها الجمعيات الحقوقية، والكارثة أنهم نقلوا أسراب البجع المطليّ بالطائرات إلى الشواطئ لتنظيفها من آثار الزيت وهم الذين لطّخوها بما لا يرجى برؤه ..

صدقاً كم كنت أتمنى أن ترافق تلك المشاهد الحزينة سيمفونية بحيرة البجع للموسيقار الروسي تشايكوفسكي، لتعطي الصورة أبعاداً حقيقية لمأساة طيور البجع في أمريكا، لتؤكد أيضاً أنّ مأساة البجع في أوروبا لا تقل كارثة حينما وضع ذلك المتخلّف تلك السيمفونية ( بحيرة البجع) خلفية لمغامراته، وهو يطارد الوعول في جبال الألب بمروحياته، ويستعرض أمام الملايين بعدم إنسانيته وهو يستحضر هذا المنتج الإنساني الراقي شاهد زور على دكتاتوريته وطغيانه...

والمؤلم حدا لا يقبل التسويغ هو المضمون الحقيقي لخطاب الرئيس أوباما المتلفز إلى الأمة الأمريكية من وراء مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض، حول التسرّب النفطي في خليج المكسيك، حينما اعترف بأنّ بلاده لا تمتلك التكنولوجيا اللازمة لمعالجة هذا النوع من التسرّب النفطي، ووضع كل الحلول على عاتق «بريتيش بتروليوم» التي ستلجأ إلى حيل قانونية تحرم من خلالها ملايين الأمريكان المتضررين من التعويض، ولكن المضمون الأخطر والسؤال الأدهى: من يعوّض طيور البجع والكائنات المتضرّرة من تلك الكارثة أيها الإنسان؟

ولا أدري هل فطن العالم إلى الوقت الذي تسرّبت فيه بقعة الزيت السوداء في خليج المكسيك، كانت هناك بقعة من الدم حمراء تسرّبت في البحر المتوسط مقابل شاطئ غزة، ولم يتفاعل معها العالم المتمدِّن بشكل موضوعي مثلما تفاعل مع بقعة الزيت، ليتأكد أنّ النفط الأسود أغلى من الدم الأحمر، على أنّ الضحية في الأولى حيوان والضحية في الثانية إنسان، الأولى آخذة في الاتساع والتلويث والأخرى آخذة في وأد كل محاولات الشرفاء في السلام، وتولى كبر سفكها قرصان مسلّح، وجنرالات ملأت صدورها بنياشين قتل الأطفال والنساء والشعراء والثوار والناشطين، وأبدعت في نيْل أوسمة التسويغ والتلفيق، ليصبح الجلاّد ضحية والضحية جلاداً، في واقع مزمن يعاني من تورُّم وخلايا تتمدّد بشكل فوضوي لا يعرف لها طرف، حتى وصلت إلى عروق الضمير الحي فأصابته في مقتله، وأدمن القلب السليم مشاهد الصراخ والنياح ومراسم العزاء، وكأنّ شيئاً لم يكن ...

أيها العالم، والله إنّ هؤلاء الأطفال أطفالنا والعذارى بناتنا والشيوخ شيوخنا والنساء أعراضنا والتراب ترابنا والتاريخ تاريخنا والإنسان إنساننا، وكل يوم تزداد الفجوة ونرى جهود الشرفاء تتبدّد سدى ولا حل يلوح في الأفق قريب، وليس هناك إلاّ إمعان وإذلال من مخلب متصلِّب وناب مسموم وكأننا نتعامل مع وحوش في عالم متوحش ....

في كل مشهد تتلوّى عجوز فلسطينية أمام كاميرات التلفزة حزناً على استشهاد صغيرها نحس بأنّ الأرض تنقص من أطرافها، وفي كل موقف يتشبّث فلسطيني عجوز بشجرة زيتونه في حيفا ويافا واللد، نشعر باضمحلال معاني الرجولة، وفي كل ملحمة كارثية تحثو فتاة عذراء التراب على رأسها أمام جثة والدها، نحس بكل معاني اليتم والقهر التي ما مرت على إنسان قط...

صدقا نحن لا نطلب مستحيلاً في إزالة إسرائيل ومسحها عن الخارطة التي رسموها بطريقتهم وألوانهم وأديلوجيتهم، ولكن قليلاً من الواقعية والاحترام والتقدير للمواقف والقرارات الدولية ومفاوضات السلام التي ملّت الطاولات من كثرة بقائها دونما فتح لصفحتها الأولى حتى علاها الغبار وأكلتها البراغيث التي تشهد أننا مددنا كلتا يدينا للسلام، ونريد إصبعاً واحداً من كف إسرائيل لكي نثبت أننا بشر ونستحق العيش والتعايش على هذا الكوكب، ولو من أجل الشرفاء من أمثال الآلاف من الفرنسيين في الشانزلزيه، والأتراك في أنقرة واسطنبول والبريطانيين في لندن والأمريكان في نيويورك والأوروبيين في أوسلو وبرلين، إضافة إلى عشرات العواصم في مختلف القارات . من أجل اليهود الشرفاء الذين رفضوا الحرب على غزة ووصفوا الأعمال الحربية الإسرائيلية بجرائم الحرب ضدّ الإنسانية، ودعوا العالم إلى مقاطعة دولة إسرائيل.

وصدّق ذلك اليهودي بريطاني الذي وصف مشاركته في التظاهرة ضدّ إسرائيل بالأمر الطبيعي كون الدعوة إلى السلام ورفض الحرب معنيّ بها أيضاً اليهود، وصرخ في الفضائيات «شخصياً أدعو إلى وقف الجرائم في غزة ووقف فوري لإطلاق النار». من أجل الحاخام اليهودي الشريف الذي حرق أمام المتظاهرين جوازه الإسرائيلي تنديداً بممارسة الدولة الإسرائيلية في قطاع غزة. من أجل الناشطة الأمريكية راشيل كوري التي وقفت أمام الجرافة، التي استهدفت بيتاً فلسطينياً كانت صديقة لأصحابه وأطفالهم، وانتهى المشهد إلى سحق كوري أمام العالم كله، وقد أطلق اسم راشيل كوري على سفينة إغاثة إيرلندية تمخر عباب الإنسانية لتعبر كل القارات واللغات والأعراق والطوائف والديانات، لتبقى خالدة وشاهدة على أشد الفضائح السياسية والأخلاقية في التاريخ الإنساني. من أجل السلام الذي أصبح هدفاً لكل ناشطي العالم الذين يدافعون عن كرامتهم الآدمية وعما تبقى من شرف، ومن أجل الفنان مارلون براندو الذي رفض جائزة الأوسكار وعوقب على مواقفه ضد الصهيونية بأن وزعت صوره وقد غطاها الصليب النازي المعقوف ...

وإن لم يكن من أجل هؤلاء الشرفاء فمن أجل الله والملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء والإنسان الذي استخلفه الرب ليعمر الأرض ولا يسفك الدماء، والله من وراء القصد.



abnthani@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد