Al Jazirah NewsPaper Thursday  08/07/2010 G Issue 13797
الخميس 26 رجب 1431   العدد  13797
 
أمام مرآة (محمد العلي)
(العلي) وتجربة قصيدة النثر
علي الدميني

 

قصيدة (لولاك)

في قصائد الهجرة الثالثة لشاعرنا سنجد أن نواظم اشتغالات النص على تحويل حدس الطاقة الوجدانية إلى نص شعري تتقاطع في متني قصيدة التفعيلة والنثر.

وفي المحاور الرئيسية التي سبق أن توقفنا معها (صراع القرين، شعرية الحزن وتراجيديته، المرأة - الجسد).

وبإيجاز يمكن القول إن الخصائص المتميزة لشعرية (العلي) في التفعيلة والمرتكزة على عناصر: الرؤية، والرمز وبلاغة التكثيف والإلماح والإيجاز، والنبرة الشعرية العالية، واستهداف المخاطب الضمني، إضافة إلى قاموسها الخاص به، تتناسج في حقلي التفعيلة والنثر معاً.

ولكننا حين نقرأ قصيدة (لولاك) - وضمن سياق محور شعرية الحزن وتراجيديته - سنشعر بمتعة فرحة ونحن نلامس بعض سمات تمايز واختلاف عن تلك المشتركات المألوفة بين شعرية الحقلين!

تتجلى في هذا النص جمالية التعارضات على أكثر من محور، فالهجاء يلبس ثياب المديح، والرؤية تصيبنا بحالة التباس بين دلالات سطح النص وأعماقه، فيما تذهب الحالة التراجيدية المكثفة في النص لتعبر عن مكوناتها بقصيدة نثر وليس بقصيدة التفاعيل، وسنشير إلى كل ذلك باختصار في النقاط الآتية:

1 جدل العنوان والبؤرة:

يلوذ العنوان (لولاك) بغريمه الظاهر في البنية الأساسية المهيمنة على النص في المعنى الكامن في كلمة (الوهم)، فيشكّله في لوحات من الصور المدهشة التي تستدنيه من معناه التجريدي العام أو العائم لتحيله إلى وجود ملموس ومفعم بالحيوية والحسية المادية.

(أيها الوهم: الفارع مثل منارة

المترع مثل نهد

من نحن لولاك).

2 جدل الرؤية والتباسها:

(الوهم) هو المعنى الذي نبحث عنه ملتبساً بعباءة الأمل الذي نشدّ رحالنا إليه، مثلما عناه شعراء آخرون من قبله، من مثل (ما أضيق العيش لولا..)، و(منىً إن تكن حقاً تكن أحسن المنى...)، وسواها. ولكن شاعرنا لا يتعامل مع الوهم بتلك الطريقة الحيادية أو (المتشائلة)، وإنما يذهب إلى التغزل به ومناجاته، وكأنه حقيقة عارية.

ويمكننا أن نرى فيه الوجه الآخر لعبارة شاعرنا الشهيرة (لا ماء في الماء)، تلك التي تحيل على تجربة (سيزيف) الوجودية في رفع الصخرة إلى أعلى الجبل وسقوطه معها ثانية إلى القاع، وهو وجه من ملامح انتظار المخلّص في بعض المعاني المسكوكة في تراثنا الوجداني العربي، وهو بعدٌ من أبعاد ما خطه المعري (في داليته) الخالدة.

بيد أن شاعرنا هنا لا يعبر عن هذه الحالة كيائس مستسلم، وإنما كمحارب مجرّب، وكحكيم متأمل في قمة مرحلة العمر وتجاربه المريرة، حيث تكسّرت النصال على النصال، أمام قسوة الواقع، الذي لم نر فيه (عيداً واحداً ليس فيه كفن)!!، بحسب القصيدة.

كل هذا يمكن أن يعبر عن جانب من الصراع والتباساته داخل التجربة الفكرية والوجدانية التي أراد الشاعر أن يعبر عنها في هذا النص، ولكن الصورة الكلية لجدال الرؤية لن تكتمل بدون الوقوف على جمالية هذه القصيدة المشغولة برهافة شعرية (في صورها ورموزها وإحالاتها وكثافتها، التي يمكن لكل جملة شعرية منها أن تختزل المجلدات في لمحة شعرية خاطفة)، والمضي إلى أبعد من ذلك في قراءة النص، حين تتجلى أعنف تعارضاته في مناجاة الشاعر لذلك الوهم/ الأمل.

(خذنا بقسوة أمّ

أرجعنا صغاراً

فقد كبرنا في الهاوية).

وهذه الذروة التعبيرية الهائلة في النص تعيننا على تأمل رؤاه الكامنة في العمق وليس فيما يتبدى منها على السطح، لكي نقرأ دلالة انزياح النص بشكل كامل من أفق نقرأ فيه (تراجيدية الحياة البشرية)، إلى أفق مغاير يشير إلى (بوصلة المستقبل)!

كيف؟

إن هذا المديح الضخم (للوهم) يتضمن هجاء للذات وللجماعة على السواء (النص مكتوب بضمير الجماعة) الذين تعلقوا به، ليغدو النص في هذه الحالة بمثابة فعل جمالي جارح، لا يدعو قارئه لليأس وإنما للخروج من وهم عباءة (الوهم) إلى فضاء الفعل الذي لم ننصت إلى بواعثه أو امتلاك أسباب القبض عليه بالأسنان والأهداب، بعد!

3 حياة النص وغياب الحياة:

الملمح الثالث لجمالية تعارضات النص يكمن في الأبعاد الدرامية التي يقوم عليها جدل النص ما بين المديح والهجاء، والحب والكره، والأمل واليأس، وفي قدرة الشاعر على إحالة تلك الأبعاد إلى صور شعرية تتدفق كنهر قادر على بعث حالة من الاحتفالية بالجمال رغم قسوة الحياة الكامنة خلفها، بما يشكّل حالة احتفائية وطرباً لا يخطئه الوجدان، وتلك سمة من سمات الشعر العظيم الذي يحتفظ بالقدرة على خلق حالة الفرح الجمالي فينا حتى وهو يعبر عن أحلك حالات الألم والأحزان.

وحيث إننا قد ألفنا أن يبدع شاعرنا في تشييد معمار مثل هذا التشابك عبر شعر التفعيلة، وليس من خلال قصيدة النثر، فإن بُعداً آخر لهذه التعارضات سيتبدى لنا في حضور احتفالية شعرية بدون إيقاع عروضي!!

وهنا نخلص إلى القول بأن هذا النص يعدُّ خلاصة لتجربة العلي الحداثية في إبداع قصيدة (نثر) كتبها بعناية واضحة، لا كتجريب وإنما كتجربة خاصة بأنموذجه المتفرد الذي يتقاطع ويختلف أيضا مع تنظير نقادها، ولاسيما (ما بعد الحداثيين) في محاور التركيز على الرؤية الجمالية والدلالية معاً.

وفي هذا النص لم تعد تشاغبنا تبديات الصيغ التفعيلية ولا مرجعيتها القاموسية (سوى كلمة القهقرى!)، كما في الكثير من تجاربه؛ ولذا أرى في هذه القصيدة، وعدد قليل غيرها، اشتغالاً معنياً بكتابة نص لا يمكن أن يكتب إلا بهذه الطريقة.

ولذا سنتساءل: هل ما زال العلي مُصرّاً على عدم كتابة قصيدة النثر أو إنكار كتابتها، كما صرح بذلك في بعض حواراته السابقة لتاريخ نشر هذا النص؟

ذلك ما سنحاول مقاربته في الحلقة القادمة.

لولاك

شعر: محمد العلي

خذنا تحت جناحيك

أرِنا عيداً ليس في كفن

أسطورة واحدةً عذراء

أرِنا نهراً واحداً

لا يرجع القهقهري

نهراً يعرف ما الأشجار

أرِنا كيف نعثر على أنفسنا في هذه المقبرة المترفة.

أيها الوهم: الفارع مثل منارة

المترع مثل نهد

من نحن لولاك؟

امنح قلوبنا

شرف الانتماء لجناحيك

خذنا بقسوة أُمّ

أرجِعنا صغاراً

فقد كبرنا في الهاوية.

أيها الوهم

يا زورقاً في المحال

هل ستعبر بحر الرمال؟



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد