Al Jazirah NewsPaper Thursday  08/07/2010 G Issue 13797
الخميس 26 رجب 1431   العدد  13797
 
ابن تيمية والفلسفة
عبدالله بن محمد السعوي

 

بقدر ما يحضر لدينا ابن تيمية الفقيه، بالقدر ذاته يَغيب أو يُغيب ابن تيمية المنطقي الفيلسوف فليس له حضور بهذا الاعتبار وإنما هو من حيث هذه الحيثية مرحل نحو الهامش، بل هامش الهامش، بل إنه دونه اعتبارا.

يجري ذلك الإجراء مع أنه قد جسد وبشكل لافت شرط المتنية إلا إن إمكانية ورود تماهٍ بين الحالتين- الحالة الفقهية والحالة الفلسفية - غير جائزة فثمة خط وهمي فاصل على الرغم من انعدام الفواصل الملموسة هنا!. ثمة زحزحة مفهومية ذات منحى إقصائي فابن تيمية هنا لا يُقرأ كقيمة فلسفية، لا يقرأ كما كان، كما هو كائن، وإنما على ضوء ما يراد له أن يكون، حتى ولو لم يكنه! وكأن ما لم يكن، بات طي ما كان، الرغبوية متجذرة هنا!، فالمنشود يقصي المُعاش على الأرض عبر التجييش التعبوي!.

وإذا كان ابن تيمية الفقيه يحظى بمزيد من الحفاوة الإضافية ويحاط بكثافة من المدد التبجيلي - وهو خليق بذلك، وإذا لم يكن هوقمين فمن يا ترى يكون؟! طبعا بشرط أن يكون ذلك محكوما بالتوازن والاعتدال والتجافي عن ضروب التقديس - فإن ابن تيمية الفيلسوف كثيرا ما يتعرض للحجب، للمطاردة، للملاحقة، للتصفية، للإلغاء، لكبح التمدد، لتضييق الخناق ومن ثم الانحشار في الزاوية الأضيق! ثمة إقامة جبرية مفروضة عليه وحتى إشعار آخر. هل ثمة إفراج لاحقا؟ هل ثمة إطلاق سراح فيما بعد؟ الجواب ثاو في طيات الذهنية المقولبة، ومستكن في أغوار الزمن الفيزيائي في بعده المستقبلي.

إن ثمة اعتقادا سائدا ليس لدى من يتعاطى المعرفة وإنما لدى من التهمته الأيديولوجيا بأن ابن تيمية قلا الفلسفة وأدار لها ظهره واستدبرها بالكلية فهو لا يمت لها بوشيجة وقد هيمن ذلك الانطباع- الذي يعاني من الفاقَة على صعيد التحليل المعرفي - على مفاصل الوعي حتى فقدنا أو نكاد.. ابن تيمية ذلك الرجل الذي جعل محور تنظيره مؤسسا على نظام التفلسف وعلى نحو يفتقر إليه من سواه إلا في غاية الندور، والحقيقة أن هذا تجنّ على الحقيقة وتشويه لجمالياتها الوضاءة وتعميق لحاجز تصنيفي أصم متكئ على مركزية الانفصام بين مقومات الذات التيمية الواحدة التي يراد بتّ الحلقة الاتصالية الناظمة لشتى ضروبها، ثمة حالة من الفصل التعسفي غير المبرر.

تعمق سوء الأحوال الثقافية منعت من دقة الرؤية ولذا فثمة تأسيس لنمط خصوماتي مفتعل بين بعدي الأنا التيمية يجري استحضاره باستمرار فبقدر ما تنتفي المفاضلة تتعمق المفاصلة بين بعدي الذات التيمية مع أنه كان من المفترض مكاشفة المغيب فيها، استنطاق المدّخر، والانفتاح على ذلك المقوم الفلسفي الذي لا ينفصل عن كينونتها- التي يراد لها أن تعيش انقساما هنا!- فهو أحد مكوناتها وتناولُه بالقراءة التحليلية واستكناه مكامنه الغائرة في الصميم اللجي.

ابن تيمية منذ دروجه في مدارج الوعي وهو يعيش وسط فضاءات بيئية تنفس فيها عبق المعرفة الفقهية المتنورة والتي ولّدت لديه مسحة من الكبرياء المعرفي وأشرعت له فيما بعد أبواب التفلسف حتى بتنا نلمس كيف تسكن الروح الفلسفية الاشتغال الفقهي التيمي حتى بدا فقيها في فلسفته، فيلسوفا في فقهه حيث يتساكن فيه هذا إلى جانب ذاك وفي حالة من اللحمة الحميمية التي تنطق بها مستبطنات متنه، ولذلك ألفيناه يتجاوز الاستهلاك الفقهي والمحاكاتية الحرفية التي تصادر فاعلية الفاعل الفقهي وتواري ذاتية ذاته إلى التأمل الكاسر لصور التعاطي الميكانيكي التي تعرقل الفقه عن معانقة كماله المتوخى مما مكن ابن تيمية بالتالي من خلق جهاز فقهي متماسك البنية ومحكم الوشائج.

إن ابن تيمية في موقفه التنظيري العام لم يهاجم الفلسفة بكافة شعبها ولم يشن غاراته على عامة نماذجها. ألا تراه يقرر أن» نفي الفلسفة مطلقا أو إثباتها فلا يمكن» (منهاج السنة 4-102).

ألا تراه يؤكد أن: « لهم (يقصد الفلاسفة) في الطبيعيات كلام غالبه جيد وهو كلام كثير واسع ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم يقصدون الحق ولا يظهر عليهم العناد» (الرد على المنطقيين 1-152).

ألا تراه يقرر أن: «ما يذكرونه من العلوم النظرية فالصواب فيه منفعته في الدنيا» (نقض المنطق 78).

ألا تراه يؤكد أن كلام أرسطو « في الطبيعيات فإنه كثير، وصوابه فيه كثير» (الدرء 10-143).

بل هو لا يغمطهم حقهم حتى في مجال الدين ولذلك يقرر» أن أرسطو وأتباعه إذا ذكروا ما يتعلق بالدين فإنه يعرض على القرآن وإن كان ما يذكرونه مجملا فيه الحق فإن الحق يقبل والباطل يرد» (الفتاوى 4-115).

وإنما هو سلط أشعة أنواره المكاشفاتية على الفلسفة الإلهية المرتبطة بتأسيسها النظري بضرب من المتعالي الذي ليس بمقدور العقل أن يقول فيه قولا فصلا لأنه شأن لاهوتي يفوق طاقته الإدراكية وبالتالي فهو غير مؤهل لغشيانها فهذا القالب الفلسفي المتماس مع خطوط الفلسفة الأولى/ العالم العقلي/ المعقول الخارج عن العالم المحسوس والذي يتجاوز الفيزيق نحو الميتافيزيق هو ما مضى نحو هز مسلماته وزحزحة بديهياته وزعزعة ما يتمحور حوله من أدبيات تتصل بالماورائية وبالتالي إسقاطه من عرشيته ولذا فهو لا يفتأ يقرر أنهم» جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية ليس عندهم إلا قليل كثير الخطأ» (الرد على المنطقيين 1-152) وتمعن هنا في كلمة (كثير) حيث تشي بنوع من الدقة والنأي عن اللغة التعميمية أو الانحباس في الثنائيات الحدية.

إن ابن تيمية كما هو ديدنه تعاطى بمستوى عال من القصد والاعتدال مع الفلسفة بعد غوصه في لجة بحرها ورصده لدقائقها ووقوفه على نكاتها وعلى الأبعاد الجوانية المتلاحمة التي تشكل كينونتها فجلى ما رمّزته وفكك المعمى الذي ألغزته. وهو لا يخفي تشيعه لفعل التفلسف من حيث هو تفكير عقلي حر ينهض من منطلق البحث عن ميتافيزيقا الأشياء في جوانية عالم الطبيعة واستقصاء كنه علاقات الوجود- في عالم الشهادة - وتلمّس بنود طبيعتها السننية وعلة نشوئها ومصدر تولدها ومعالم صيرورتها الفطرية ورصد النظام السببي وما يصدر عنه من معاليل في هذا العالم؛ لأن العقل كما يؤكد(ابن رشد):» إنما يدرك الأشياء من جهة أسبابها» انظر(تهافت التهافت ص479) وإنما تحفُّظ ابن تيمية ينصرف نحو تلك الفلسفة الكاسدة على مستوى المنطق الجواني والجوفاء على صعيد القيمة المعرفية والتي يتم توسلها كمرقاة أو سلم إلى الولوج في حقل الماورائي، فإن تلك الفلسفة هي التي امتهن تصديع نسقها وعرقلة تمددها ودفعها نحو امتطاء صهوة خط بياني منحدر والإطاحة بمضامينها المفصلية وتفتيت قوانينها العامة المتكئة على أبشع ضروب الفبركة العقائدية والناهضة على التوظيف المعرفي المغرض الذي لا ينسجم وجلالة مُشيء الأشياء ومُذوت الذوات جل في علاه.

ثمة فعالية فلسفية متوهجة، ثمة فيلسوف قابض على المقود يثوي جوانية الفقيه ابن تيمية، ثمة كائن يتربع داخله ولذلك نراه لا يجد أدنى غضاضة في أن ينازل الفلسفة عبر الفلسفة، يخاصم الفلسفة من خلالها، أي ينازلها بأدواتها، يناهضها مستصحبا اشتراطاتها التي جرى التواضع عليها قبلاً.إنه فيلسوف ماهر حتى ولو لم يرد أن يطلق عليه ذلك فالفلسفة تقطن عالَمه والعبرة بحقائق المسميات لا بأسمائها، إنه فيلسوف انطوى على كافة أدوات التفلسف وهو كما أنه عميق التجرد فإنه أيضا لا يخفي حقيقة انشداده نحو أقصى قمم التجريد.المدرسة التيمية كانت تتمتع بجاذبية آسرة حيث تخلقت خيوطها الفلسفية على نحو يعز على غيرها مضاهاتها بحكم انبثاقها من عقلية تألقت في وظيفتها الأدائية التي كانت تمنحها المبرر للوجود.

وأخيراً تأمل معي في هذا الكلام لمفكرين بارزين ينتميان إلى(الطائفة الشيعية) وقد تحليا بإنصاف يحمد لهما: أحدهما الدكتور(علي الوردي) حيث يقرر أن «ابن تيمية من الشخصيات الفلسفية الكبرى في الإسلام» (منطق ابن خلدون ص57).

والآخر هو الدكتور (مصطفى طباطبائي) حيث يقول عن ابن تيمية إنه: «آية في العلوم الإسلامية المختلفة من تاريخ وأدب ورجال وفقه وحديث وملل ونحل وكلام وحكمة وتفسير وغيرها. إن الشيء الذي يثير العجب والحيرة في آثار ابن تيمية هو الإحاطة الغريبة من هذا الرجل بالآراء المختلفة للعلماء في كل فن وعلم خاصة لما يدخل في المنطق أو الفلسفة» (المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني ص89).



Abdalla_2015@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد