Al Jazirah NewsPaper Wednesday  14/07/2010 G Issue 13803
الاربعاء 02 شعبان 1431   العدد  13803
 
الإصحاح في المجتمع.. هدف ضوابط الزواج الصحية
أ. د. محسن بن علي فارس الحازمي (*)

 

خلق الله سبحانه وتعالى المخلوقات - الكائنات الحية والجماد والشجر والدواب - وخصَّ الإنس والجن بعبادته، وخصَّ الإنسان بعمارة الأرض.. وجعل من الماء كل شيء حي، وكرّم الإنسان وكوّن جسمه البشري من خلايا تكوِّن بدورها أنسجة فأعضاء، لكل منها وظيفة حيوية، تكوّن في مجموعها الفعاليات الحيوية اللازمة لحيوية الإنسان وبقائه حياً، يتغذى مما أفاء الله عليه من النبات والحيوان والماء والهواء، إلى ما شاء الله.

ولاستمرار الحياة وعمارة الأرض خلق اللهُ الذكرَ والأنثى، واستودع نواة الخلية الحقيبة الوراثية، المسؤولية عن استمرار الأجيال من خلال التوارث للصفات البشرية من المادة الوراثية للذكر والأنثى.

تندرج الأمراض التي تصيب الإنسان بصفة عامة تحت إحدى فئات ثلاث، هي: الأمراض المعدية (البيئية)، والأمراض الوراثية، والأمراض الوراثية البيئية (نتيجة عوامل بيئية ووراثية) ومحصلة تفاعلاتها البيئية/ الوراثية.

وأخذا في الاعتبار أن الأمراض الوراثية في معظمها أمراض مزمنة مستعصية على العلاج الطبي الناجع، وأن معالجتها طبياً وجراحياً، إنْ أمكن، مكلفة وغير مضمونة النتائج والخلو من المضاعفات في جميع الحالات، ولها مضاعفات صحية وتداعيات اجتماعية واقتصادية ونفسية تبعاً لذلك؛ لذا اتجهت الجهود إلى التركيز على الجوانب الوقائية للحد من إمكانية حدوث ولادات مصابة بالأمراض الوراثية المستعصية على العلاج الطبي الناجع.

وتتمثل المجموعة المرضية الناتجة عن أسباب وراثية بحتة في أمراض الدم الوراثية التي تؤدي إلى ما يُعرف لدى العامة بفقر الدم، الذي يؤدي إلى أمراض ومضاعفات صحية، وأمراض الدم الوراثية أكثر الأمراض وضوحاً من الناحية السببية وأنماط التوارث؛ حيث يمكن تتبع أنماط توارثها من الآباء إلى الأبناء؛ وبالتالي تحقيق أهداف التشخيص المبكر والتدخل المبكر بوصفهما وسيلة وقاية مبكرة من الاعتلالات الوراثية (شكل 1).

وعملاً بمقتضيات مقاصد الشريعة في الحفاظ على الضرورات الخمس: الدين والعقل والنفس والنسل والعرض والثروة، تدارست جهات شرعية وطبية وإدارية حكومية، ومؤسسات من المجتمع المدني، ومهتمون وذوو علاقة من القطاع الخاص، مختلف الجوانب ذات العلاقة بالصحة لدى الفرد والأسرة والمجتمع.

وصدرت عنها قرارات وتوصيات واقتراحات وآراء وتوجيهات ومؤشرات ذات دلالات، تهدف في مجموعها إلى مكافحة الأمراض الوراثية التي يمكن كشفها مبكراً أو الحد من حدوثها والتقليل من آثارها الصحية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية؛ حيث يمكن الكشف عن الإصابة لدى الأجنة أثناء الحمل وعن الاعتلالات الوراثية لدى حاملي المورثات المعتلة من أفراد المجتمع في مراحل مختلفة من العمر بعد الولادة.

وفي هذا الصدد أصدر المجمع الفقهي الإسلامي قرارات متعلقة بالجانب الوقائي، كما صدر عن مجلس الوزراء السعودي - بناء على اقتراحات اللجان المختصة، ودعم وزارة العدل، ووزارة الصحة في المملكة العربية السعودية - قرارات عدة، تدرجت في عناصر الكشف الصحي وتطبيقاتها على أفراد المجتمع، وتم ربط هذه القرارات بمستوى الوعي - الفردي والمجتمعي - وتنميته لإدراك أهداف البرامج الوقائية، المتمثلة في برنامج الفحص قبل الزواج الذي بدأ العمل به بوصفه ضابطا صحيا للزواج المختلط الجنسية في العام 1418هـ، واختيارياً للسعوديين في العام 1423هـ، وصولاً إلى مرحلة الإلزام بإجرائه والإفادة من الإرشاد الوراثي في ضوئه دون الإلزام بنتائجه، وذلك بدءًا من العام 1425هـ، وأخيراً توسيعه ليشمل الأمراض المعدية الخطيرة في العام 1429هـ، وتعديل اسم البرنامج من «الفحص قبل الزواج» إلى «الزواج الصحي». وقد بُني هذا البرنامج على قواعد شرعية وأخلاقية وضوابط صحية، تشمل حقوق الجنين على والديه في الاختيار، وتوخي مدعيات الإصحاح في جسده وعقله، وتحقيق حقوق الفرد - رجلاً وامرأة - والوقاية من الأمراض، والحصول على الاسترشاد الوراثي، وضمان السرية والخصوصية والتوعية والتثقيف بهدف الحد من الحمل المصاب وولادة أطفال مصابين بالأمراض الوراثية، وتجنب الحاجة إلى إجهاض المصابين الذي تحكمه ضوابط شرعية ومحددة قد لا تتوافر شروطها في كل الأمراض الوراثية، وهي تراعي المقتضيات الشرعية «بعدم ربط توثيق العقد بها»؛ فالبرنامج يهدف إلى التنوير وليس إلى المنع؛ فللمقبلين على الزواج حق إتمام العقد؛ فلا يُلزمان بنتائج الفحص الصحي ومقتضياته الصحية. وتنبع مقتضيات «الزواج الصحي» مما ورد في الكتاب والسنة، ومن ذلك ما ورد عن التوجيه النبوي الشريف بتوخي الحرص في الاختيار للزواج، وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم المعلّم الأول وتوعيته وتثقيفه وإرشاده لرجل بني فزارة، حيث جاء هذا الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متسائلا: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال نعم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فما ألوانها؟ قال حمر. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هل فيها من أورق؟ قال إن فيها أورقاً. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فأنى أتاها ذلك؟ قال الرجل: عسى أن يكون نزعه عرق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق. صحيح مسلم.

ويستدل من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك - وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى - أساسيات الوراثة وأنماط توارثها قبل أربعة عشر قرناً، وأنه شرع التوعية والتثقيف والإرشاد الوراثي لأفراد المجتمع، وأشار كذلك إلى توخي سبل الاحتياط في الاختيار الصحيح للزواج، حين وجّه رجلا مقبلا على الزواج بالنظر إلى عيني امرأة لاستجلاء العيب الصحي، إنْ وُجِد، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) مسند الإمام أحمد. أملاً في أبناء يتمتعون بالجسم السليم والعقل السليم بإذن الله.

ويرتكز برنامج الزواج الصحي على دور المرشد الوقائي ضمن برنامج الزواج الصحي بالتبصير والتنوير وشرح أنماط الوراثة، واحتمالات الإصابة بالمرض الوراثي وكيفية الوقاية منه في ضوء نتائج التحاليل المخبرية التي تشير إلى عدم التوافق في المادة الوراثية، وكذا الأمراض المعدية الخطرة، كما تعزز جهود الوقاية من قِبل مأذوني الأنكحة بالشرح والتوضيح في حالات عدم التوافق الصحي بين المقبلين على الزواج، ودعم المعرفة والتبصير بالنتائج المحتملة للزواج غير التوافقي وراثياً. ويبقى دور الأفراد، ثم الأسرة والمجتمع ككل، في التفاعل مع برنامج «الزواج الصحي» ومعطياته الوقائية، وتوخي الإصحاح في الأبناء والجيل القادم، وهو - بحمد الله - يتحسن تباعاً؛ حيث قُدّر عدد من يحجم عن الزواج من الحاملين لمورثات أمراض الدم المعتلة من المستفيدين من البرنامج عند بدئه في العام 1425هـ بنحو 11 %، وتحسنت هذه النسبة لتصل إلى نحو 40 % من الحاملين للاعتلالات تقبل على الزواج بالرغم من دلالات الفحص الصحي. ويبقى البرنامج الوقائي في إطار التنوير وليس المنع، والأمل معقود على فاعلية التوعية في إيصال الرسالة الوقائية، وتفاعل المجتمع مع جهود الوقاية خدمة للصالح العام في تحقيق أهدافه المرجوة في تجنُّب ما من شأنه إصابة الأبناء بالأمراض الخطيرة والأمراض المزمنة وتحقيق هدف الإصحاح في المجتمع.

ويشتمل برنامج الزواج الصحي على جانب آخر هو الوقاية من الأمراض المعدية الخطرة كأمراض الزهري والسيلان، التي يمكن علاجها والبرء منها، وكذلك التهاب الكبد الفيروسي ومرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، حيث يبين المرشد الوقائي تداعيات الإصابة ووسائل العلاج الممكنة والطرق الوقائية توخياً لتجنب انتقال هذه الأمراض إلى الزوج (أو الزوجة) ودفع الضرر عن السليم - بمشيئة الله -.

والله الموفق.

شكل (1): الفحص قبل الزواج (الفحص الصحي لاعتلالات الدم الوراثية)

(*) عضو مجلس الشورى وعضو لجنة الشؤون الصحية والبيئة
نائب رئيس اللجنة الاستشارية للاتحاد العالمي للبرلمانات لمرض الإيدز


E-Mail: hazmigene1@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد