Al Jazirah NewsPaper Friday  16/07/2010 G Issue 13805
الجمعة 04 شعبان 1431   العدد  13805
 
كلمة وفاء لشيخنا ابن غديان رحمه الله
د. عبدالرحمن بن فايز الحربي(*)

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

الحمد لله العلي الأعلى، الولي المولى، الذي خلق فأحيا، وحكم على خلقه بالموت والفنا، والبعث إلى دار الجزاء، والفصل والقضاء ?لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى? كما قال في كتابه جلَّ وعلا: ?إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى? (طه: 74- 76).

وإن أعظم أنواع الفقد على النفوس وقعاً، وأشده على الأمة لوعة وأثراً، فقد العلماء الربانيين، والأئمة المصلحين، إن فقد العلماء مصيبة، وإن ذهابهم رزية، وإن موت العالم العظيم ثلمة في الإسلام، ذلكم لأن للعلماء مكانة عظمى، ومنزلة كبرى، فهم ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، والأمناء على ميراث النبوة، هم للناس شموس ساطعة، وكواكب لامعة، وللأمة مصابيح دجاها، وأنوار هداها، بهم حفظ الدين وبه حفظوا، وبهم رفعت منارات الملة وبها رُفعوا: ?يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ? (المجادلة: 11).

في عام 1403هـ عندما أنهيت درجة الماجستير وحصلت عليها من المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض رغبت التسجيل في مرحلة الدكتوراه فبدأت رحلة البحث عن موضوع لتسجيله وبعد جهود مضنية وبعد الاستعانة ببعض الأصدقاء والزملاء اهتديت إلى تحقيق كتاب مخطوط (الممتع شرح المقنع) لابن منجا التنوخي، حيث اخترت تحقيق كتاب الجنايات والحدود - الجزء الرابع، واختار اثنان من زملائي وهم كل من فضيلة الشيخ سعد الشلوي قاضي الاستئاف بمكة المكرمة حالياً والشيخ سعد المدرع أحد كبار موظفي إمارة المنطقة الشرقية بعض أجزاء الكتاب المذكور، وواجهتنا مشكلة وجود مشرف واحد يتولى هذه المهمة فبدأنا برحلة البحث عن المشرف فقابلنا عدداً من مشايخنا الفضلاء وأساتذتنا الأجلاء منسوبي الجامعة وغيرها من الجهات العلمية الأخرى.

ولأن أنظمة الجامعات أيضاً قد حددت عدد الرسائل التي يشرف عليها كل أستاذ بالجامعة مما زاد مشكلتنا تعقيداً، حيث لم نجد مشرفاً واحداً يستطيع الإشراف على رسائلنا جميعاً نظراً لأن كل واحد منهم لديه العدد والنصاب المحدد من قبل الجامعة وبعد أن أضنانا التعب والجهد اهتدينا إلى أستاذنا وشيخنا الفاضل عبدالله بن عبدالرحمن الغديان عضو هيئة الإفتاء، وهيئة كبار العلماء، أحد أساتذتنا ومشايخنا الأجلاء الذين تلقينا على أيديهم علم أصول الفقه بالمعهد العالي للقضاء إبّان دراستنا لمرحلة الماجستير ولعلمنا أن فضيلته رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عنا خير الجزاء لديه عدد من المسجلين لمرحلة الماجستير والدكتوراه فقد كان أملنا بموافقته ضعيفاً ولكن ما إن عرضنا عليه رغبتنا في الإشراف على رسائلنا بعد معرفته بنا وما واجهناه من البحث عن مشرف على رسائلنا وتعذر ذلك من قبل أساتذة الجامعة حتى أبدى استعداده وموافقته على الإشراف على رسائلنا، بل إنه كتب موافقته على ذلك واستعداده للإشراف على جميع من يأتي بعدنا لتكملة تحقيق الكتاب المذكور رغبة منه رحمه الله في إخراج هذا الكتاب النفيس والذي يعتبر أحد كتب الفقه الأصلية.

فبموافقته رحمه الله تعالى فتح لنا باباً من أبواب الخير والعلم وسهل علينا ويسر لنا مواصلة تعليمنا ودراستنا العالية ما كان ذلك ليحصل لولا أن يسر الله فضيلته للإشراف على رسائلنا.

ومن هنا بدأت معرفتي بفضيلة شيخنا العلامة رحمه الله ومن هنا بدأت رحلة القرب منه وزيادة التعرف عليه وبدأت معها رحلة البحث والتحقيق لكتاب الجنايات والحدود من كتاب (الممتع شرح المقنع) لابن منجا التنوخي المتوفى بالقرن السابع الهجري، فوجدت من فضيلته التوجيه المفيد والتسديد الصائب والرأي الحصيف والتواضع الجم والأخلاق العالية، وتقديرا منه رحمه الله لبعد مكان عملي عن مكان إقامة فضيلته فقد طلب مني إرسال ما يتم تحقيقه مع أي شخص موثوق ليطلع عليه ويبدي توجيهاته وملاحظاته وتسديده بدون حضوري ولم يلجئني إلى الالتزام بالحضور إلا إذا تطلب الأمر حضوري لمناقشة بعض المسائل التي تحتاج إلى بحث واستقصاء فكنت أحضر إليه بمنزله العامر القريب من شارع عسير ومنزله الآخر الملاصق لدار الإفتاء بالرياض فأجد منه حسن الاستقبال وأريحية اللقاء والتواضع الجم مما أزال ما بيني وبينه من رهبة وخوف، حيث إنني أتعامل مع أحد من كبار العلماء وأهم المراجع العلمية في البلاد ولكنه ما إن لازمته أكثر وجدته يفيض تواضعاً ولين جانب وبشاشة في اللقاء، حيث كان متواضعاً لطلابه محباً الخير لهم، بل كان يرفع من معنوياتهم ويشجعهم لمتابعة البحث والاطلاع منمّياً فيهم القدرة البحثية والاطلاع العلمي والقدرة العلمية فقد كان رحمه الله لا يتضجر ولا يتململ من كثرة استفساراتهم وأسئلتهم التي لا تنتهي فكان يقضي الوقت الطويل وهو خارج قاعة المحاضرات منصتاً ومجيباً على كل مسألة تطرح عليه من قبل طلابه وغيرهم ممن يحضرون إليه في مكتبه أو في مسجده أو في الطريق إليهما هذا غير الاتصالات التي يتلقاها في كل وقت فكان الناس لا يترددون عن الاتصال بفضيلته في أي وقت حين تلم بهم مشكلة أو يحزبهم أمر أو تشكل عليهم مسألة، بل كان بعضهم يطلب منه تفسيراً للرؤيا التي كانوا يرونها وتفسير فضيلته للرؤيا من الأمور التي قد لا يعرفها كثير من الناس عنه فهو إمام في تأويل الرؤى إلا أنه لم يفتح الباب لعموم الناس فقد حدثني فضيلته أنه يتلقى اتصالات من الناس في الثلث الأخير من الليل يطلب متصلوها تفسير رؤيا حصلت لهم في هذا الوقت، فقلت له: وهل تتلقى اتصالات في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل وهو وقت التهجد والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى فقال وما يمنعني من ذلك وأنا قائم وقد شبعت نوماً فالناس بحاجة إلى من يجيب على استفساراتهم في كل وقت وهؤلاء ما اتصلوا بهذا الوقت إلا لأن هناك أمراً مهماً ألمّ بهم أو مشكلة حصلت لهم فرحمك الله يا شيخنا رحمة واسعة فكم كنت متواضعاً لين الجانب وإلا فمن يستقبل مثل هذا في هذا الوقت المتأخر من الليل؟

ومما عرفته عن فضيلة شيخنا أثناء ملازمتي له في فترة الإشراف على رسالتي للدكتوراه والتي اعتبر إشرافه عليها تشريفاً ووساماً على صدري أعتز به ما حييت.

فقد كان زاهداً بالدنيا لا يغتر بمظاهرها وملذاتها متواضعاً فلو شاهدته وهو يخرج من مسجده بعد أن يؤم الناس بصلواتهم ويرد على أسئلتهم واستفتاءاتهم وقد وضع عمامته على كتفه لأدركت زهده وورعه وتواضعه حتى أن من يشاهده وهو على تلك الحال لا يصدق أن هذا هو العالم الرباني الأصولي الألمعي صاحب البرهان والحجة البالغة والمفسر الذي استبان له مراد الحق وهو اللغوي النحوي الذي استطاع بسعة أفقه وإدراكه أن يطوع اللغة العربية لفهم الأدلة وتنزيل الأحكام والحوادث على الواقع فقد استطاع أثناء تدريسه لمادة (أصول الفقه) في المعهد العالي للقضاء أن يسهل هذه المادة على الطلاب وإيصال مدلولاتها ومفرداتها إلى طلابه بيسر وسهولة مقرباً لهم تلك المدلولات والمفردات بشكل مبسط ومفهوم حتى يسهل عليهم فهمها واستيعابها، حيث إنها تعتبر أصعب المواد فهماً وإدراكاً.

وهذا ما حصل فقد نفع الله به طلاب العلم بصفة خاصة والمسلمين بصفة عامة ولذا فهو ليس فقيد أسرته وطلابه، بل هو فقيد الأمة بكاملها وهو ركن أساسي من أركان الإفتاء بهذه البلاد المباركة وهو محل ثقة ولاة الأمر - حفظهم الله تعالى - بعد ان استبان لهم غزارة علمه وحصافة رأيه وصدق نصيحته لهم وللمسلمين عامة، حيث حظي بثقة ولي الأمر - حفظه الله - بتجديد عضويته بهيئة كبار العلماء والإفتاء ولعدة سنوات، فقد عاش هادياً مهدياً زاهداً ورعاً تقيّاً لزم طريق السلف الصالح فلم يشذ ولم يخالف ولم يجادل بباطل قط، بل كان إماماً في شتى العلوم ومدافعاً عن عقيدة السلف بالحكمة والموعظة الحسنة ناصحاً لأمته وولاة أمره ولذا فقد حزن لفقده الكثير والكثير من الناس، وما الجموع الكبيرة والغفيرة التي توافدت على جامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض عصر يوم الأربعاء الموافق 19-6-1431هـ توافدت معبرة عن حزنها وألمها العظيم لفقد هذا العالم الجليل الذي أمضى حياته دارساً ومدرساً إلا دليلاً على ذلك، ولم يقتصر اهتمامه رحمه الله بطلاب العلم فقط، فقد اهتم بالعامة فخصص لهم جزءاً من وقته على ضيقه فثقفهم وعلمهم ووجههم ووعظهم فأجاد وأجاز وأفاد.

وأما دروسه ومحاضراته ولقاءاته العلمية العديدة في الجامعات والمساجد وفي أشهر الحج وفي جميع الأوقات إلا شاهد على ذلك، وها نحن اليوم نصاب بفقده وغيابه فقد ذهب بموته الكثير من العلم والخير ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، وعلينا أولاً: أن نحفظ حق العلماء الذين قُبضوا وأن نكثر من الترحم عليهم، ونذكر حسناتهم، ونكف عن سيئاتهم وعوراتهم، لا نذكرهم إلا بالجميل، فمن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.

ثانياً: الحرص على نشر علمهم وفتاويهم، وما بلغوه للأمة، فهذا من أعظم الوفاء وخاصة على طلاب العلم.

ثالثاً: على طلاب العلم أن يجدّوا ويجتهدوا وأن يتداركوا من بقي من علماء الأمة، وأن يحرصوا على طلب العلم عليهم، وأن يصبروا في ذلك ويصابروا، ويحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى.

وأخيراً نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجبر مصابنا ويخلف علينا ويعوضنا عن تلك الخسارة العظيمة ونسأله سبحانه أن يغفر لشيخنا ويسكنه فسيح جناته ويعمه برحمته وغفرانه وأن يجمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأن يجزيه عما قدمه وبذله من علم وخير ونصح وتسديد للإسلام والمسلمين خير الجزاء و?إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ?، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(*) قاضي الاستئناف بمحكمة الاستئناف بالرياض


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد