Al Jazirah NewsPaper Friday  16/07/2010 G Issue 13805
الجمعة 04 شعبان 1431   العدد  13805
 

يا أبا مرام فقدتك المواقف والأوقاف
د. عبدالملك بن محمد بن عبدالرحمن القاسم

 

يقدر الله الأقدار وينزل المنايا على من شاء من عباده مصداقاً لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وفي يوم الجمعة 27-7-1431هـ كانت سهام المنية حولنا وأصاب سهمها أخونا عبدالرحمن بن سليمان المطرودي. على صحة فيه وعافية.

عندها أمسكت بالقلم لأكتب دون ترتيب فخشيت أن تطغى العاطفة وتزيد، فاستعصى مرة وأخرى دون ما أريد، فتركته أياماً مفجوع القلب حائر النظرات.. ثم عدت إليه لائماً معاتباً إن لم تكن العاطفة اليوم تسوقه وتحبر أوراقه فلا تكن بعد اليوم.. قضيت معه -رحمه الله- يوم الخميس كاملاً إلى غروب الشمس وسعدت بصحبته وحديثه، حيث كان يحرص على حضور اجتماع أسرتنا كل خميس في مزرعة الوالد -رحمهم الله- أفاض علينا بحديث سمح وبشاشة ولطف ولم نعهده إلا كذلك، احتضن الصغير والكبير ووقف في الشمس طويلاً ليصافح طفلاً تأخر في الحضور..

أما يومه الأخير في هذه الدنيا فهو يوم عبادة، حيث أيقظ أهله، وأدى صلاة الفجر في المسجد، ثم تفقد والده وناوله أدويته ثم جلس بجوار والدته وفعل مثل ذلك.. بعدها اغتسل مبكراً في العاشرة صباحاً لصلاة الجمعة.. ثم أسلم الروح على حاله تلك، في صباح جمعة مباركة سكت قلب نبض بحب الجميع، أما مساء جمعته فهو بين يدي جواد كريم يغفر الزلة ويجازي على القليل كثيراً.

أقلب ورقة يومه الأخير أم أقلب صفحات سبعة وخمسين عاماً مضت، بدأها طالباً في المرحلة الابتدائية، ثم في المعهد العلمي حتى تخرج من كلية الشريعة ورشح قاضياً فشفع له والدي -رحمه الله- لدى الشيخ عبدالله بن حميد فأعفاه من القضاء. وعين معيداً في جامعة الإمام، ثم كانت رحلته إلى مرحلة الدكتوراه في بريطانيا، حيث أقام مع زملائه صرحاً عظيماً هو الآن مركز الملك فهد -رحمه الله- في أدنبرة الذي استمر بناؤه بجهود بسيطة لمدة تزيد عن خمسة عشر عاماً كانت له اليد الطولى في متابعته وإقامته وعندما عاد إلى المملكة آوى إلى جامعته التي تخرج منها (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، حيث كان أستاذاً فيها حتى اختير عام 1414هـ وكيلاً للشؤون الإسلامية، ثم وكيلاً لوزارة شؤون الأوقاف ووكيلاً مكلفاً لشؤون المطبوعات حتى وفاته، وكان يجمع في أوقات كثيرة بين أكثر من وكالتين وله يد طولى في ضبط الأوقاف والمحافظة عليها ووضع النظم والأطر الإدارية، وما برح يتابع وقف الملك عبدالعزيز بمكة يوماً بعد يوم حتى أضحى حقيقة قائمة.

وعرف عنه حرصه على أداء عمله والمحافظة على وقته والتزامه بالدوام، فكان يدخل الوزارة في السابعة ولا يعود إلى بيته إلا بعد العصر، وذكرت أختي أنه لم يتناول معهم طعام الغداء أبداً إلا في حال سفرهم معه.

ومن حرصه على الأمانة: أنه كان يحرص أن يؤدي زملاؤه في العمل أداء متميزاً، وأذكر أن أحد الأصدقاء ذكر أن الدكتور عبدالرحمن يحرص على انضباط الموظفين في دوامهم فنقلت له هذه العبارة فقال لي: ما أردت إلا أن أعينهم ليأكلوا حلالاً، ليس بيني وبينهم شيء. وفي آخر يوم داوم فيه وهو الأربعاء 25-7-1431هـ هاتف سكرتيره في وكالة المطبوعات الساعة الثانية إلا ربعاً وقال: أنا خارج من الأوقاف وسآتي إليكم، ضع الأوراق التي تحتاج إلى توقيع ومراجعة واذهب، قال: ثم هاتفني في الثالثة والربع وقال: الأوراق جاهزة على مكتبي.

ولهذا لا تعجب وأنت ترى زملاء في العمل في ذلك اليوم وقد أرسلوا الدمع حزناً على الفقيد.

ويظهر لي أن الجانب المهم في عمله هو إخلاصه وتفانيه وعفته، فقد خرج من الدنيا نزيهاً لم يأخذ منها شيئاً، وهذه الخصلة تحتاج إلى وقفات طويلة.. بل ومن ذلك جانب الورع في حياته فقد رأس مجالس إدارات ومؤسسات ولم يأخذ المكافأة التي تقدم له، بل وأعاد مبالغ وصلت إليه عن مشاركات له في أعمال خيرية ولقاءات ومؤتمرات. وفي جانب الدعوة إلى الله هو من قلائل خدموا الدعوة السلفية بهدوء وبدون ضجيج وصوت مسموع فهو متزن الكلمة هادئ النبرة بعيد عن الأضواء ومحبة الشهرة.

وأظنه يعرف كثيراً من العاملين في الساحة الإسلامية شرقاً وغرباً بحكم سفره ولقاءاته، ولعل ما امتاز به من هدوء وروية أن جعله شخصية قيادية محبوبة مع تواضع جم ولطافة في المقابلة وحسن إنصات وتقدير ودماثة خلق نادرة. وقد جمع الله له مع حسن المعتقد وصفاء المنهج سخاء في النفس واليد، وما رأيت مثله في الكرم منذ أن كان طالباً ليس في يده شيء من الدنيا.

وسوف أذكر مواقف على عجل تؤكد على شخصيته الفذة ومنها بره بوالديه، وبقاؤه معهما في بيتهما ما برح عنهما يوماً، ومن زار والده بعد وفاته وسمع ما يقول لفقده؛ علم ذلك، ووالله تصاغرت نفوس كثير من الإخوة عندما علموا صنيعه.

وله باب في إعانة الفقراء والمحتاجين وشفاعات لا تحصى، وأذكر زميلاً له قال: لما قدمت دارساً لبريطانيا وكان معي شيك مصرفي تعثر صرفه شكوت ذلك له، فقال: أنا مغادر غداً إلى المملكة هذه بطاقتي وهذا الرقم السري، فشكرت صنيعه ولم تكن بيني وبينه تلك الصلة القوية حتى يفعل كل ذلك، ولما كان طالباً في أدنبرة قدم إلى لندن والد زميل له وكان يتعذر بأن لديه امتحاناً، فقال د.عبدالرحمن وكان طالباً حينها، أنا أذهب وآتي به، رجل كبير لا يعرف كيف يصل، فكان أن سافر مسافة ساعات ليستقبل والد زميله ويعود به، وله مثل هذه المواقف في الشهامة والرجولة ما لا يحصى. وقد ذكر الدكتور عادل العبد الجبار في رسالة أرسلها: يشهد الله أني منذ عرفته من تسع سنوات وأنا أدعو له، له في السر أعمال لا حرمه الله أجرها.

وذكر أحد الفضلاء: أنه أنجز عن طريقه أكثر من ستين عملاً خيريّاً ما بين بناء مسجد أو مساعدة أو خلافها. ومع أعماله ومسؤولياته فقد كان حفيّاً بزوجته وبنياته فقرت عينه بحفظهن كتاب الله -سائلاً الله أن يجعلهن له حجاباً عن النار- وفي مطلع هذا الصيف التحقن بدورة شرعية ففرح بذلك، ولما توفي ذكرت المشرفة على الدورة أنه قد اتصل بهم مشجعاً ومؤازراً لهذا الجهد المبارك.

وقد كان والدي -رحمه الله- يقربه ويدنيه ويستشيره، ومن المفارقات أنه توفي بعد الوالد -رحمه الله- بعشر سنوات إلا شهراً، وله مؤلفات عزف عن طبعها في حياته منها كتاب عن الحسبة، وآخر عن الإشاعة وأضرارها على المجتمع. وغيرها.

اللهم اغفر لأبي مرام وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين، اللهم وجازه وأحسن إليه كما أحسن لعبادك واربط على قلوب أهله واجبر كسر أختي من قامت معه خير قيام، وأصلح بنياته ووفقهن واربط على قلوبهن وأنزل السكينة عليهن. أبا مرام:

عليك سلام الله وقفاً فإنني

رأيت الكريم الحر ليس له عمر

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة

غداة ثوى إلا اشتهت أنها له قبر

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد