Al Jazirah NewsPaper Wednesday  21/07/2010 G Issue 13810
الاربعاء 09 شعبان 1431   العدد  13810
 
إلى الأمام
حرارتنا وحرارتهم واهتماماتنا واهتماماتهم
د. جاسر عبد الله الحربش

 

أقضي حالياً بعض الوقت مع العائلة في النمسا لأسباب عديدة, منها الهروب من الخمسين درجة مئوية ومنها تجديد المعرفة بأفكار الغرب حيال مشاكل المستقبل. يبدو أن مسألة تبخر ما في الرأس مع ارتفاع الحرارة تجد لها ما يدعمها من خلال ما أشاهده هنا من تغير المزاج عند الناس عندما تتعدى الحرارة حدود الثلاثين درجة مئوية. حينئذ ترى وجوه الناس عابسة ونظراتهم عدوانية ويصبح تعاملهم في أماكن العمل والمقاهي والمطاعم أقل تلطفاً وسعة صدر.

ما أن تبدأ درجة الحرارة بالنزول تحت الثماني والعشرين درجة حتى تتغير الأمور. عندئذ يكثر التصبيح والتمسية بالخير ويتكرر سماع كلمة نهارك سعيد, أما الملامح فتنبسط وتختفي منها الكراميش والتغضنات. باختصار, درجة الحرارة العالية تسخن المزاج والمنخفضة تبرده, أي أن هناك تناسباً عكسيا ً بين حرارة الجو واعتدال المزاج، وإن لم تصدق فما عليك سوى مشاهدة التغير في طبائع المواطن السعودي في مواسم الصيف والشتاء. هذا ما أردت قوله بخصوص الهروب من الخمسين مئوية وما يترتب عليها من نتوءات مزاجية.

أما فيما يخص تجديد المعرفة بالعقلية الغربية فسوف أكتفي بثلاث ملاحظات تستند على ما يصدر هنا من السلطات الإدارية في مجال التعليمات التعميمية وعلى ما يقدم في برامج التثقيف العام في الفضائيات وما يكتب في الدراسات المتخصصة في الصحافة، سوف أكتفي لضيق المساحة في مثال واحد في كل مجال من المجالات المذكورة.

1- في مجال التعليمات: تحذر السلطات هنا في أشهر الصيف شديدة الحرارة (بالطبع حسب مقاييسهم) من التعامل المتساهل والمسرف مع المياه, سواء لأغراض الاستحمام أو الغسيل إلى آخر الاستعمالات العامة ما عدا الشرب، فهذا ما تحرص التعليمات على النصح بالإكثار منه من باب الحرص على صحة المواطن الغالية عندهم كثيراً. بالله عليكم هل تصدقون ما تقرؤون؟ بلاد تجري من تحتها الأنهار وتفيض في جنباتها البحيرات وتكسو قمم بعض جبالها الثلوج في عز الصيف ولا يمر أسبوع دون أن تهطل الأمطار، ومع ذلك تتشدد سياساتها في ترشيد الاستهلاك. أكاد أنفجر بالبكاء عندما أقارن الحساسية المفرطة في تعاملهم مع مصدر الحياة الأول رغم وفرته عندهم مع اللامبالاة والسفاهة التي يتعامل بها الناس عندنا مع المياه في المطاعم والفنادق والمطابخ ومحطات غسيل السيارات وصنابير الوضوء ومغاسل الملابس والأثاث بالرغم من أنهم محاطون من كل جانب بسراب القيظ اللاهب.

2- في مجال التثقيف العام في الفضائيات: عليكم أن تصدقوا طوعاً أو كرهاً أن ما يقدم عندهم في مجال الخلاعة الأخلاقية أقل بكثير مما يقدم على الفضائيات العربية وأكثر حشمة لو جاز التعبير. بالمقابل تقدم فضائياتهم برامج سهلة الفهم شديدة العمق في مجال الارتفاع بمسؤولية الفرد داخل المجتمع. شاهدت برنامجا بعنوان: حتى آخر نقطة نفط ... كيف نستعد للمستقبل ؟. يقدم البرنامج تاريخاً مركزاً ومختصراً لحقبة النفط في الحضارة الانسانية من البداية وحتى النهاية المؤكدة القادمة مع استهلاك آخر نقطة نفط تختزنها الأرض.

من ضمن الاستعدادات قبل أن تحل تلك اللحظة على حد قولهم هناك استعدادات علمية بدؤوها منذ سنوات. على سبيل المثال، هناك برنامج تموله الحكومة الألمانية رصدت له مجموعة من الأسر الشابة المفرغة مادياً ووظيفياً لهذا البرنامج في محمية بيئية طبيعية يعتمد أفرادها فيها اعتماداً كاملاً على الوسائل البدائية في التعامل مع المصادر الطبيعية للطاقة (الحطب والخشب والشمس والريح) والزراعة والمياه ووسائل النقل (الحصان والثور) وتربية مصادر اللحوم والدهون من الدواجن والحيوانات. هذه الأسر الشبابية المختارة للبرنامج تشكل مجموعة من العلماء كل في مجاله, يسجلون ملاحظاتهم ويتدارسون أفكارهم ويطورون وسائلهم استعدادا ً لليوم القادم الذي ربما وقد ومن المحتمل أن يضطر فيه الشعب الألماني إلى العودة للعيش عندما تنضب مصادر الطاقة المتوفرة حالياً.

3- في مجال التثقيف المتخصص في الصحافة: قرأت في أسبوع واحد مقابلتين صحفيتين مع متخصصين في مشروع أوروبي ضخم جداً وقائم بالفعل لتركيب محطات طاقة شمسية في تونس والجزائر والمغرب ومن ثم تجميع تلك الطاقة الشمسية الهائلة في حاويات (لا أعرف كيف لنقلها للاستهلاك السلكي عبر الأبيض المتوسط في أوروبا ومحلياً في بلاد الشمال الأفريقي (العربي أيضاً). الهدف من تلك المقابلات الصحفية كان تنوير المواطن الأوروبي وإقناعه بتقديم المبالغ الهائلة من النقود التي يحتاجها البرنامج وتستقطع كضرائب من دخول المواطنين لكي تستفيد منها أجيال أوروبا والشمال الأفريقي, وربما تستفيد البشرية كلها من الفكرة وتطبيقاتها في المستقبل الذي ليس ببعيد.

انتهى الموضوع, وأترككم بعناية الله وحفظه آملاً أن تفكروا ملياً في بعض الطرق العقلانية للتصرف مع المياه والطاقة والمستقبل وتتركون عنكم الاستمرار في استهلاك ما في الخرج القديم من العصبيات والاهتمامات الجاهلية التي لا تروي العطش ولا تسد الرمق، ولا تقدم فرصة للحياة مع الأمم التي تبحث وتنقب عن مصادر الحياة.







 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد