Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/07/2010 G Issue 13818
الخميس 17 شعبان 1431   العدد  13818
 
ثقافة المجتمع والحراك السياسي
د. عبد المجيد محمد الجلاَّل

 

ظلَّ «الشأن السياسي» عنصراً رئيساً في الحراك المجتمعي الإنساني على مدار التاريخ قديمه وحديثه، كما ظلَّ الخلاف والاختلاف حول مناهجه وتطبيقاته، سمة هذا الحراك بكل معطياته.

بما يخص «المجتمعات الإسلامية» يدور النقاش والجدل بين الكثير من التيارات الفكرية بمرجعياتها المتباينة حول أسس النظام السياسي، وقواعده، وآلياته.

كتاب «النظام السياسي في الإسلام» لمؤلفيه الدكتور برهان غليون، والدكتور محمد سليم العوَّا تعرَّض لعدة مسائل أساسية ذات صلة مباشرة بالحراك السياسي الإسلامي، أبرزها وجود نظرية محددة لنظام الحكم في الإسلام من عدمه، والتعددية السياسية والحياة الحزبية، وعمل المرأة في الشأن السياسي، ووضع غير المسلمين المواطنين في الدولة الإسلامية وعلاقة الأخيرة بالدول غير الإسلامية.

ولأنَّ المؤلفين من تيارين فكريين متباينين، فقد اختلفت الرؤى، والمنطلقات، بما يخص التنظير والتأصيل. ولعليِّ في هذا المقام أُجمل آراء هما حول مسألتين أساسيتين:

أولاً: مسألة وجود نظرية محددة لنظام الحكم في الإسلام من عدمه: اتفق المؤلفان على عدم وجود مثل هذه النظرية، إذ يرى «برهان غليون» أنَّ «الثقافة السياسية التي رافقت تكوين الدولة، وتطورت من خلاله ثقافة إسلامية لم تكن مستمدة بالضرورة من تعاليم الديِّن ومتوافقة معه، بقدر ما كانت ثمرة تلاقح مستمر للأفكار والقِيم والتوجهات المنشورة على مستوى الأقطار والأقاليم والحضارات. وللتوفيق الذرائعي بين قِيم الإسلام والتصورات التقليدية الراسخة للدولة والسياسة المدنية التي كانت قائمة من قبل، وكما أظهرت ممارستها التاريخية فيما بعد، لم تكن هذه الثقافة جامدة.. ولكنها كانت دائماً ولا تزال خاضعة للتبدل والتطور والتحول مع تبدل تيارات التواصل والتفاعل الثقافي بين هذه المجتمعات.. وتبدل شروط معيشة هذه المجتمعات ذاتها. وبعبارات أخرى لم تنجم الممارسة السياسية ولا بناء الدولة عن تطبيق معتقدات دينية محددة، وإنما جاءت في سياق صراعات تتجاوز مسألة الاعتقاد والتبشير، ولعبت في تكوين ملامحها وتوازناتها ثقافة تغذت من مصادر متنوعة قومية ومذهبية». في حين يرى «محمد سليم العوَّا» أنَّ الإسلام لم يأت في نصوصه القرآنية والنبوية «بنظام حكم معَّين المعالم محدد التفاصيل يجب على المسلمين في كل العصور الالتزام به والوقوف عند حدوده، والنظر في موروث الفقه الإسلامي - مثل مسائل الخلافة وشروط استحقاقها وإدارة الدولة الإسلامية وأنواع الولايات - وفي موقف الفقهاء المعاصرين من كثير من مسائله يؤكد أنَّ الأمر في الشأن السياسي كله مسألة اجتهادية ظنية تخلو من «مسلك القطع ومُدْرَكِ اليقين» وهي بذلك تقتضي اجتهاداً متجدداً في كل عصر تتحقق به مصالح أهله وتقتضيه الظروف والأحوال، فمنهج الإسلام في التشريع «تفصيل ما لا يتغير وإجمال ما يتغير».

ثانياً: مسألة التعددية السياسية والحياة الحزبية في المجتمعات الإسلامية: اتفق المؤلفان على آليتها، وهي «نظام الانتخاب» الذي يتم بموجبه التداول السلمي للسلطة السياسية، فلا بأس علينا كما يقول «العوَّا» إن نحن أخذنا بالوسائل التي سبقنا إليها غيرنا من الأمم والشعوب، فإنَّ صلاح حال الناس غاية أعظم من أن تحول بيننا وبينها عقلية جامدة أو همة قاعدة،وهذه المسألة تندرج ضمن المصالح المتغيرة التي مبدؤها ومنتهاها إلى ما يقرره العقل البشري. وقديماً قال ابن قيم الجوزية «إنَّ أي طريق أسفر بها وجه الحق والعدل فثمَّ شرع الله ودينه». وهدف السياسة الحديثة الأول كما يقول «غليون» هو حرية الأفراد في تنظيم شؤون مجتمعهم وتقرير مصيرهم عبر انتخابات عامة ودورية من خلال مؤسسات المجتمع المدني.

وإذا كان المؤلفان قد اتفقا على تبني آلية «الانتخاب» فقد اختلفا حيال الأسس والقواعد التي تستند إليها هذه الآلية، إذ ربط «العوَّا» بين إجراء هذه الآلية ومفهوم الدولة أو الحكومة الإسلامية بمرجعيتها وقيمها الإسلامية الملِزمة للحاكمين والمحكومين، فاعتبر الحكومة الإسلامية هي الإطار الذي تعمل بموجبه هذه الآلية، بما يؤهلها بالتالي لممارسة دور الرقيب المباشر على القوى السياسية والحزبية لضمان الالتزام بِقيم الإسلام وأحكامه وهم بصدد طرح برامجهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولكنْ «غليون» يرفض منهج «العوَّا» في ربط الفكر الديمقراطي بمفهوم «الدولة أو الحكومة الإسلامية» أو ما أسماه بوهم الدولة الإسلامية، واعتبره مفهوماُ تأملياً محضاً مشتقاً من التفسير العصري للنصوص الدينية، وليس له علاقة بما جرى بالفعل في تاريخ المسلمين الحقيقي، أي بمضمون وبنية الدولة كما تطورت في التاريخ الإسلامي بالفعل، فدولة المسلمين التاريخية نشأت من صراع المسلمين بوصفهم مجتمعات بشرية فيما بينهم، ومع المجتمعات الأخرى، على تأمين مصالحهم الدنيوية، وبالتأكيد ما كان من الممكن لهذه الدولة أن تولد من دون المقدمات والشروط التي أحدثتها على الأرض، وفي النفوس حركة الدعوة الدينية.

ويستطرد «غليون» بالقول: إنَّ الأخذ بمثل هذه النظرية يلغي بالكلية نظرية «الدولة الحديثة نفسها» إذ في ظل نشوء الدولة الديمقراطية التي تحترم حرية الاعتقاد والحريات السياسية والمدنية لم يعد الاشتراك في عقيدة دينية أو فلسفية «مثل الدولة الدينية أو العقائدية أو دولة الحزب» هو أساس الوحدة الاجتماعية وقيام الأمم والدول بقدر ما أصبح قيامها رهنا بالنجاح في بناء نظم مجتمعية قادرة على توفير الحياة المادية والحريات السياسية والفضاءات الاجتماعية والثقافية التي تبعث الرضا المعنوي والسعادة عند البشر، أي على تلبية حاجة الاندراج في العصر وقيمه وموارده الحضارية «السياسة المدنية». وهكذا فإنَّ الدولة الحديثة دولة مواطنيها بصرف النظر عن أصولهم القومية وعقائدهم الدينية وانتماءاتهم الاجتماعية واعتقاداتهم الفلسفية. وتتمثل وظيفة الدولة، هنا، بتأمين مصالح الأفراد الدنيوية والارتقاء بشروط معيشتهم وتنظيم علاقاتهم البينية على أسس قانونية وإدارية، وتوزيع المهام المدنية والسياسية، أما في مجال الحياة الخاصة للأفراد، وفي مقدمها الاعتقاد الفكري أو الديني أو السياسي أو الفلسفي، فلا يحق للدولة ولا يجوز لها أن تتدخل فيه لأنه من الأمور الخاصة التي تشكل أساس ممارسة الحريات العامة السياسية والمدنية طالما أنها لا تتعارض مع القانون، ولا تسيء إلى الأفراد الآخرين، ومن ثمَّ فهناك تمييز واضح بين وظيفة السلطة السياسية ووظيفة المجتمع المدني في الدولة الحديثة. ولكن «الحيادية المذهبية للدولة» في رأي «غليون» لا تعني حيادها تجاه التراث الفكري أو الثقافي لمجتمعاتها، ولا ينبغي فهم ذلك على أنه قيد على الديِّن وإنما تحرير له من استخداماته المسيئة، ومن وراء ذلك تحرير للإنسان المتدين وتقوية للإيمان والاعتقاد اللذين سيقومان عندئذٍ من دون إكراه، وبالمثل لا ينبغي فهم إخضاع السياسة لمقياس العقل ومعاييره على أنه تجريد للسياسة من القِيم والمبادئ والغايات الأخلاقية، ولكن بالعكس من ذلك حرمانها من الأقنعة الكاذبة ، وبناؤها على أسس واضحة تزيد من قدرة المجتمعات على مراقبة السلطة السياسية ومساءلتها ومحاسبتها.

تعقيب بموضوعية: تحدث المؤلفان عن التعددية السياسية والحزبية، وآلية الانتخاب، كخيارٍ سياسي للمجتمعات الإسلامية، وهذا أمر لا مندوحة منه من حيث المبدأ، ولكن من المهم جداً ربط هذا الخيار بطبيعة ونوعية الثقافة التفاعلية المجتمعية السائدة، ودورها الأساس في تهيئة البيئة المولِّدة لأُطر وقواعد الممارسة السياسية.

عبر استقراءٍ تاريخي للتطبيقات الإسلامية المعاصرة لم ينتج عن آلية «الانتخاب» في الغالب معطيات سياسية مستقرة، وبعبارة أدق «تداول سلمي للسلطة السياسية». إذ في تطبيقات معينة أُفرغت هذه الآلية من مضمونها وكنهها الأساسي، بفعل تدخلات سافرة من قبل السلطات الإدارية الحاكمة للمحافظة على مصالحها ونفوذها السياسي «أنموذج التجربة الإيرانية». وفي تطبيقات أخرى أجَّجت هذه الآلية صراعات سياسية ومذهبية، أو خلافات قبلية وعشائرية «أنموذج التجربة العراقية».

ربما يمكن إحالة إشكالية الإخفاق بصفة رئيسة إلى أنَّ غالب المجتمعات الإسلامية لم تتهيأ بعد لمتطلبات واشتراطات هذه الآلية.

على أية حال، إذا كانت المسألة برُمِّتها رهنٌ بثقافة المجتمع وتركيبته الديموغرافية والسيكولوجية والاجتماعية، فلا بأس أن يصطلح المجتمع على منهجية وآلية سياسية معينة، تتماهى مع تعاليم دينه وقِيمه العالية، ويرى أنَّها أداته لتحقيق استقراره، وتلبية احتياجاته التنموية والمعرفية، وكفالة حقه في حرية إبداء الرأي والتعبير، دون حصر هذه المنهجية أو الآلية بوعاء أو أوعية تشريعية محددة «أنموذج التجربة الخليجية». ولكن من المهم جداً العناية بالبيئة القانونية والتشريعية والرقابية التي تحفظ للممارسة السياسية عنفوانها وشفافيتها، أياً كانت آليتها، بعيداً عن الصراعات السياسية، وتضارب المصالح والنفوذ.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد